ليست المشكلة أن تغيب عنّا في زحمة شواغل ومشكلات الحياة اليومية، حقائق غاية في البساطة، ولكن المشكلة أن تغيب بعيدًا جدًا عنا تلك الحقائق البسيطة في لحظات الألم والمرض، والتي هي لحظات نكون فيها بأمسّ الحاجة إليها. والتحلي بصفات الشكر والامتنان هي من الشيم والعادات التي أثبتت كل الوقائع والشواهد على مرّ العصور أنها من أفضل الوسائل للحفاظ على النعم التي نتمتع فيها في صحتنا وحياتنا، وللوقاية من زوال أو تدهور مستوى أحوالنا الصحية والنفسية وغيرها.
ضمن العدد الأخير لمجلة «الروحانية في الممارسة الإكلينيكية (Spirituality in Clinical Practice)»، نشر الباحثون من جامعة كاليفورنيا في سان دييغو نتائج دراستهم حول تأثيرات التحلي بصفة الشكر والامتنان (Thankfulness) والجوانب الجيدة في الحياة اليومية لدى مرضى فشل القلب (Heart Failure) على مستوى حالتهم الصحية.
وتابع الباحثون في دراستهم مستوى الحالة الصحية لنحو 200 مريض مُصابين بفشل القلب وفق التصنيف الطبي. وللتوضيح، فإن رابطة القلب الأميركية AHA والكلية الأميركية لطب القلب ACC يصنفان مراحل تطور فشل القلب إلى أربع درجات: مرحلة «إيه A» ومرحلة «بي B» ومرحلة «سي C» ومرحلة «دي D». ومرضى مرحلة «إيه» هم الذين لديهم خطورة عالية للإصابة بضعف القلب، ومرضى مرحلة «بي» هم الذين حصل لديهم بالفعل ضعف في قوة عضلة القلب عن القدرة على ضخ الكميات الكافية من الدم للجسم ولكن لم تظهر عليهم بعد الأعراض مثل ضيق التنفس وسهولة التعب وعدم القدرة على الاستلقاء على الظهر وتورم القدمين وتجمع المياه في الرئة وغيرها، ومرضى مرحلة سي لديهم أعراض مزعجة لضعف القلب لديهم تحد من قدراتهم على ممارسة أنشطة حياتهم اليومية وتتطلب حالتهم الصحية معالجة طبية متقدمة، ومرضى مرحلة «دي» الذين لا تفيدهم تلك المعالجات المتقدمة للتخفيف الكافي من معاناتهم تداعيات حالة الضعف الشديد في قلوبهم. وتجدر الملاحظة أن بين مرحلة «بي» ومرحلة «سي» ترتفع خطورة الوفاة 5 أضعاف.
وقام الباحثون بإجراء تقييمات اختبارات نفسية لمرضى ضعف القلب المشمولين بالدراسة وذلك بغية تقييم مستوى تحليهم بالشكر والامتنان Levels Of Gratitude ومستوى رفاهية شعورهم بالعافية والصحة Spiritual Well - Being. ولاحظ الباحثون في نتائج دراستهم أن أولئك المرضى المتحلين بمستوى أعلى من الشعور بالشكر والامتنان لديهم حالة نفسية أكثر شعورًا بالرضا في المزاج العام، وأفضل في مستوى راحة نومهم الليلي، وأقل شكوى من الشعور بالتعب حال ممارسة الجهد البدني، وتثبت تحاليلهم انخفاض مستوى عمليات الالتهابات في أجسامهم. ومعلوم أن ارتفاع مؤشرات عمليات الالتهابات في جسم مريض ضعف القلب هو أحد العوامل التي ترفع من احتمالات تدهور حالتهم الصحية.
وعلى الرغم من أن تصميم الدراسة لم يكن لإثبات أن الشعور بالشكر والامتنان سبب في تحسين حالتهم الصحية، إلا أنها بينت ملاحظة أن ثمة علاقة واضحة بين مستوى الشعور بالشكر والامتنان وبين مؤشرات تدهور أو تفاقم الحالة الصحية لمرضى ضعف القلب.
ولحصول الباحثين على تقييم دقيق عن تأثيرات الشعور بالشكر لدى المرضى المشمولين بالدراسة، تم الطلب من أولئك المرضى استخدام «مفكرة الشكر والامتنان» لمدة 8 أسابيع. ولاحظ الباحثون أن نتيجة استخدام هذه المفكرة اليومية لتدوين ملاحظاتهم عن مسببات ومستوى الشعور بالشكر والامتنان في غالبية الأيام، هو مزيد من الحفاظ على وارتفاع مستوى شعورهم بالشكر والامتنان ومزيد من النجاح في عدم تدهور حالتهم الصحية.
ومعلوم أن التحلي بالشكر والامتنان يتطلب شيئًا من الجهد لبنائه والحفاظ عليه في النفس، وثمة طريقة تُدعى «مفكرة الشكر والامتنان» مبنية على اتباع خطوات متعددة لتحقيق ذلك، وهي أولاً زراعة الشعور هذا في النفس ولو كبذرة صغيرة يتطور حجمها مع الوقت، وثانيًا تبني كتابة عدد من العناصر يوميًا كأسباب لشعور المرء بالشكر والامتنان والحرص على التقليل من تكرارها مع مرور الأيام، أي البحث عن أسباب موجودة لكنها غائبة عن الذهن، وثالثًا تأمل تلك الأسباب والخروج بقناعات عن حقيقة تسببها للمرء بالشعور بالشكر والامتنان، مثل كون الإنسان يملك فراشًا مريحًا ولديه قوت يومه وأنه آمن في بيته وأن لديه أسرة ووظيفة وغيرها من العوامل التي تتسبب حقيقة في تكوين شعور بالشكر والامتنان في نفس الإنسان، ورابعًا كتابة الأشياء الأخرى التي لدى الإنسان كالقدرة على رسم اللوحات الزيتية لمنْ يهوى ذلك أو المهارة في السباحة لمنْ يعشقها وغيرهم، وخامسًا التأمل في الشكر والامتنان لامتلاك أشياء دون التورط في فخ النظر إلى ما يتملكه الغير أفضل منك، وسادسًا التفكير في القدرات المملوكة كالقدرات على المشي أو السمع أو الرؤية أو الأكل أو سهولة شرب الماء وغيرها، وسابعًا التأمل في نعمة وجود الأشخاص من حولك كالوالدين أو الإخوة والأخوات والزوجة والأبناء والأصدقاء وغيرها، وثامنًا التفكر في أوضاعك العامة والخبرات الجميلة التي مرت بك في حياتك كنيل الشهادات أو زيارة البلدان أو مشاهدة الأشخاص أو غيرهم من الأشياء التي تتراكم في الذهن كذكريات جميلة تبقى دائما لدى المرء.
وعلق البروفسور بول ميلز، المتخصص في طب الأسرة والصحة العامة في جامعة كاليفورنيا والباحث الرئيس في الدراسة، على هذه الطريقة في تكوين الشعور بالشكر والامتنان بقوله: «وجدنا أن هؤلاء المرضى الذين حافظوا على استخدام مفكرة الشكر والامتنان لمدة 8 أسابيع، تحقق لهم خفض معدلات مؤشرات كيميائية مهمة للالتهابات في الجسم وزيادة في تفاوت معدل نبض القلب Heart Rate Variability، وهو من المؤشرات المهمة لتقليل خطورة الوفاة»، ومعلوم طبيًا أن انخفاض تفاوت معدل نبض القلب HRV هو من العوامل السلبية المؤثرة وخصوصا بعد الإصابة بجلطات النوبة القلبية.