الانفلات الراهن في المشهد السوري نتاج طبيعي ومنطقي للترتيبات الهشة التي تم التوصل إليها العام الماضي في ما عرف بـ"اتفاقية خفض التصعيد" بين أطراف الوصاية الثلاثة روسيا وتركيا وإيران، وبنوع من التفهم الاستثنائي من جانب الغرب وواشنطن، خلافاً لموقف غربي معادٍ ومفهوم تجاه عملية آستانة التي تجمع هذه الأطراف الثلاثة، وتصور البعض آنذاك أنها تحضير للساحة لتسويات نهائية. ووفقاً لهذه الترتيبات كان يفترض وقف استكمال القوات الحكومية السورية عملية استعادة منطقة إدلب ومحيطها، بذريعة وجود كتلة سكانية مدنية ستكون في قلب هذه العمليات العسكرية (قدرت بنحو ثلاثة ملايين نسمة) على أن تقوم تركيا في مقابل تأجيل هذه العمليات العسكرية بنزع الأسلحة الثقيلة من الميليشيات، إضافة إلى فصل الميليشيات أو الفصائل المتشددة عن تلك المعتدلة، مع السماح لها بإقامة 12 نقطة مراقبة داخل محافظات إدلب وحماة وحلب. كان متوقعاً أن تركيا لن تنفذ تعهداتها، بل وستعزز نشاط الفصائل المتشددة وعلى رأسها "هيئة تحرير الشام"، "جبهة النصرة" سابقاً والمنبثقة عن "تنظيم القاعدة" المتشدد، والتي وسعت من مناطق نفوذها على حساب الفصائل المعتدلة تحت الرعاية التركية وثيقة الصلة بها، فيما واصلت تركيا من جانبها تعزيزاتها في المناطق السورية خارج السيطرة الحكومية، وبشكل خاص المنطقة الشمالية الشرقية السورية التي تخضع أغلبها لسيطرة الفصائل الكردية المدعومة بالعديد من القواعد الأميركية الصغيرة. ووفقاً لما ذكرته الإذاعة البريطانية نقلاً عن السفير السوري لدى الأمم المتحدة بشار الجعفري، وصلت أعداد القوات التركية في الأراضي السورية عموما إلى نحو 10650 جندياً، أغلبهم متمركز في المنطقة الحدودية التي تنوي تركيا بقبول أميركي إقامتها باسم "المنطقة الآمنة" لإحداث تغييرات هيكلية في هذه المناطق بما في ذلك لنقل اللاجئين السوريين إليها من بعد أن انتهى دورهم وتوظيفهم من قبل أنقرة، سواء للحصول على مساعدات أو لابتزاز الدول الأوروبية لمنع انتقالهم إليها. المهم أن ما حدث في إدلب كان متوقعاً، فمع تقدم القوات الحكومية السورية في هذه المنطقة بدعم جوي روسي، تمكنت من السيطرة على مدينة خان شيخون وقرى وبلدات محيطة بها، وسيطرت في شكل خاص على الطريق الدولي الذي يربط بين محافظتي حلب وحماة. هكذا، أصبحت القوات السورية تحاصر أبعد نقطة مراقبة تركية داخل الأراضي السورية، وباتت القوات التركية المتمركزة في مورك معزولة تماماً عن مناطق سيطرة المعارضة السورية، خصوصاً "جبهة النصرة". دفعت هذه التطورات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى أن يهرع الثلثاء الماضي إلى موسكو للقاء نظيره الروسي فلاديمير بوتين والبحث عن حفظ ماء وجهه وإيجاد مخرج. وكانت موسكو كالعادة مستعدة لترتيبات حفظ ماء الوجه التركي، فلا مانع أن يقف أردوغان في المؤتمر الصحافي المشترك مع بوتين، ليسجل رفضه ومعارضته لأي تهديد للقوات التركية وتأكيده معارضته تحرك القوات الحكومية السورية وادعاء خوفه على المدنيين السوريين، وأن يحصل على موافقة روسيا على تعزيز قواته على حدودها مع سورية، ولكن بتأمل قليل تضمنت الزيارة كذلك موافقة تركيا على استكمال القضاء على العناصر المتطرفة، ومعنى ذلك ببساطة أن القوات السورية، وبدعم جوي روسي، وربما أكثر من ذلك، ستستكمل عملياتها في إدلب حتى النهاية وسيتم تحريك نقاط المراقبة التركية شمالاً لاستكمال إقامة المنطقة الآمنة التي ستعتبرها تركيا ضمانتها لعدم السماح بإقامة كيان كردي مستقل. ويتفق ما سبق مع ما توقعناه من قبل بأنه سيتم تصفية الفصائل المسلحة في منطقة إدلب، حتى لو تم ذلك بكلفة عالية للأطراف المعنية، وأن للتسويات والمقايضات موضع آخر وهو المنطقة الشمالية الشرقية التي تسيطر الميليشيات التركية على أغلب أراضيها التي تتواجد فيها قوات أميركية وغربية حتى لو محدودة العدد، وقوات أخرى تركية ضخمة نسبياً وقابلة للزيادة ليشكل هذا مصدر تعقيد متزايد في الساحة السورية. وفي الواقع أن تركز الصراع والمواجهة في المنطقة الشمالية الشرقية في الفترة المقبلة يتضمن بدوره عدداً من الأبعاد والتحديات، منها كلفة استمرار قوات أميركية ولو قليلة العدد لفترة زمنية غير واضحة المعالم وفي حال ترقب دائمة، وكذلك القوات التركية، في وقت ستستمر سيطرة الفصائل الكردية كأمر واقع خارج المنطقة الآمنة، كما سيكون السؤال دوماً مطروحاً حول آلية السيطرة على الفصائل التركية من دون ترتيبات سياسية محددة، وفي ظل خلفية أن القواعد الأميركية الصغيرة منتشرة في طول المنطقة الشمالية الشرقية وعرضها، وعددها قرابة عشر قواعد، وبعضها سيكون داخل المنطقة الآمنة التي يبدو أنها ستكون بعمق نحو 40 كيلومتراً والبعض الآخر خارجها. وتبعاً للخطة التركية، ستسعى أنقرة إلى ترحيل اللاجئين السوريين من أراضيها إلى هذه المنطقة الآمنة، وهذا طبعاً سيناريو غير ممكن، إذ سيعود أغلبهم إلى ديارهم الأصلية السورية، ولكن تركيا تراهن على تغيير الخريطة السكانية بحيث تصعب قيام كيان كردي، وبالطبع هذا سيناريو يصعب التيقن من تحققه. الواضح أن روسيا ستواصل سياسة احتواء تركيا وتعميق علاقاتها الاقتصادية معها وتعزيز صادراتها العسكرية إليها، بما يحقق المزيد من التباعد التركي مع حلفاء أنقرة الغربيين، فضلاً عن أن موسكو في ما يبدو أكثر من يدرك مدى تعقد خريطة الصراع داخل الساحة السورية، لذلك تلعب المباراة بهدوء وبرودة، إذ تمكنت من إنهاء معركة إدلب أولاً وتحقيق السيطرة على أكبر مساحة في الأراضي السورية، وتأجيل الملف المعقد في المنطقة الشمالية الشرقية لتلعب بعد ذلك مباراة صعبة ستتداخل فيها العديد من الاعتبارات التي تشمل التكاليف والأبعاد القانونية والورقة الكردية، وكلما تعقد الموقف يزداد وضوح السيطرة الروسية على إدارة الملف.
مشاركة :