(القصة القصيرة لا تجذب أحداً، فهي ليست كالرواية لها المقومات الجاذبة)، مقولة قالها من يعتبر نفسه اليوم قاصاً، قالها في يوم القصة العالمي، عندما أجاب عن سؤال يقول: ما هي المعوقات التي لم تجعل للقصة القصيرة اليوم صيتاً كما هو للرواية أو للشعر؟ وأستغرب أن يدّعي كاتب، حمل مشروع القصة القصيرة على كاهله زمنا طويلاً، بل هي هوايته ومحبوبته، وقد طبع فيها كتباً، أن يقول هذا الكلام. إذ كيف يكون للقصة ذنبٌ في ذلك ما دامت منذ البدايات قد أظهرت مفهومها بنحو مميز، وثبتت قواعدها الفنية بشكل ملفت، في زمن كان مكتشفوها ومنظروها، فضلاً عن كتابها، أكثر جدة في فهمها، وتناولها، وتقديم المميز الإبداعي فيها، فأصبحت مادة مثيرة للدهشة، والجدل، واستقطاب الأقلام الكاتبة إليها، حتى أخذت بلباب العقول المفكرة على عاتقها الاعتكاف على قراءتها ونقدها ودراستها والبحث فيها وتداولها بنحو ملحوظ؟ نعم، كانت كذلك في زمن غطت فيه على الرواية والشعر أيضاً. وأقولها بكل صراحة: إن من لا يعرف القصة القصيرة تماماً، ولم يقرأ أو يتابع ما عليه القصة اليوم في المشهد الثقافي ولدى المتلقي بالذات، بل من لا يمكن أن يرى نفسه مقصراً أبداً.. لا يمكن أن يقول عنها بلسان طلق إلا مثل هذا القول القاصر. ومن هنا، وفي مقالي هذا، سأتعرض لأغلب وأهم المعوقات، بنحو مختصر، والتي أعتقد أن كلها لا تكمن في القصة، بل في غيرها، لترفع عنها قضبان التهمة، وهي كالتالي: أولاً: من حيث الكاتب: عدم فهمه التام لمفهوم وكُنه وتعريف القصة تماماً. نتيجة لعدم فهمه للسرد، فإنه غير قادر تماماً على الإتيان بالسرد الفعّال المؤثر المدهش، بل والمتطور الذي يناسب العصر الذي يعيشه. عدم فهمه لمجمل عناصر القصة وطريقة استعمالها في القص. تخلّيه عن بعض أو أغلب خصائص وعناصر القص المطلوبة، لعدم قدرته على القيام به بالنحو المطلوب. استسهاله للقصة، لكونها مشروعاً لا يستحق منه الكثير من الاهتمام، والأخذ بالجوانب الفنية وينصبّ اهتمامه على إخراج الجانب الموضوعي فقط، فتبتعد سمة السردية عنها. خلطه للقصة، فيما بينها وبين الأجناس الأدبية الأخرى بطريقة ساذجة، فلا تكاد تعرفها؛ أهي خاطرة أم مقال أم كائن آخر. عدم قدرته فيها على الإبداع الفني وتطويره والتجديد فيه. عدم قدرته على الإدهاش في إخراج الفكرة والموضوع بطريقة فنية أيضاً، قوامها السرد، بل لم يقدم جديداً فيهما على مستوى الموضوعات والأفكار التي باتت قديمة مستهلكة يجترها بين الحين والآخر. لم يزل غارقاً في تقديم موضوعاته الذاتية تحديداً التي لا تهم أحداً سواه، ولم يخرج إلى المجتمع الذي ينتظر منه التفاعل مع موضوعاته وأفكاره وأحداثه ومتطلباته. لم يلامس بشكل جدي الموضوعات التي لامستها الرواية وتطرقت إليها، بل وتجاوزت فيها الخطوط الحمراء. ما زال يتبنّى فكرة أن الغموض المدقع والرمزية الفاقعة في النص، هما السبيلان لجعل النص جذاباً ومحركاً للعقلية القارئة والمتلقية والناقدة والمفكرة والباحثة والدارسة. عدم قدرته الفائقة على إلقاء نصه على الجمهور وشد انتباههم للنص، وتشدّقه التام إلى اليوم بأن القصة لا تُسمع بل تُقرأ. تعنّت ومكابرة وإصرار البعض على أخطائهم في حال تقديم النقد إليهم وعدم تقبّلهم له، بل وعدم اللجوء بأنفسهم لتعلم القصة في منابعها الصحيحة، وتدارسها بنحو جدي. هذا هو أهم سبب رئيسي في معوقات جذب القصة القصيرة اليوم، ولذا أشدّ على يد من يرى نفسه محباً أو هاوياً أو حتى متطفلاً، فلابد أن يفهم هذه النقاط التي أوردتها آنفاً، لتكون انطلاقته الأولى إلى القص. وفي مقال آخر مكمل لهذا المقال، سوف أذكر بقية المعوّقات لتكون إضافة للعلم وإنصاف القصة. وهناك معوقات أخرى تفصيلها كالتالي: ثانياً من حيث المؤسسات الأدبية والثقافية: 1- عدم إيجادها لورش ومحاضرات وندوات تهتم بالقصة القصيرة، تبقى مستمرة طوال العام. 2- ليس لها أي دور في إعطاء التوجيهات والملاحظات الهامة التي تقوّم الكاتب، ولو عن طريق جمع كل ما يتعلق بالقصة وطباعته في كتيبات صغيرة وسهلة التناول والفهم؛ لتُقدم للمبتدئ. 3- عدم إيجاد موظفين دائمين في المؤسسة، أو أعضاء بمكافأة مقطوعة، من خيرة النقاد الضالعين في القصة القصيرة ليعملوا على قراءة المنتج وتحفيز أو تطوير أو وضع القاص والمتلقي على طريق الجادة. 4- التساهل في إعطاء الموافقة على طباعة المجموعة القصصية التي تفقد فنيات القصة الحقيقية ذات الجودة والتطور والجدة، مما يجعل الكاتب يعتقد أن الموافقة تلك، هي شهادة بجدارته، بل وتعزز زهوه، وإصراه بأن ما قدمه هو الفعل الحق. 5- التساهل في اختيار طاقم المحكمين الذين إما لا يفقهون في القص تماماً أو هم ليسوا بأصحاب ضمير فيجاملون، أو ليسوا بذوي غيرة على مستقبل القصة فيحابون، أو لم تكن القصة في دائرة اهتمامهم فيناصرون، أو توجد لهم مصلحة فيمررون.. وهكذا، يتركز تحكيمهم على الاهتمام بالأخطاء المطبعية، أو ما يتعارض مع التابوهات الثلاثة الجنس والسياسة والدين ولو بلفظة فقط، فتتم إزالتها، وينتهي الأمر. 6- تحاول المؤسسة أن تظهر ذاتها بأنها مهتمة بذوي التجارب والواعدين، فتحتضن بالطباعة ما غث وسمن وتنسى الجودة. كل ذلك من باب أنها تريد أن تقول لنا: إنها مهتمة بالإصدارات وتطبع الكثير منها. ثانياً: من حيث الناقد، إذ أصبح اليوم لا يهتم بالقصة القصيرة، فأصبح يرى فيها الكثير من عدم الإبداع ومما لا يعنيه أو يغنيه، وقد توجّه إلى أجناس أخرى، بأسباب موهومة، بل الحقيقة بأنه غاب تماماً عن كل الأجناس الأدبية. ثالثاً: من حيث الجمهور: 1- من يعرف القصة منهم على نحوين، إما أنه يجامل الكتّاب الذين لا يعرفون القصة بدعوى مناصرة المبتدئين والواعدين. أو له مصلحة ما فيتجاوز عن أخطائهم، وكل ذلك على حساب القصة وجودتها. 2- ومن لا يعرف القصة أبداً، طبيعتهم التصفيق والتطبيل لئلا يُؤخذ عليهم عدم المعرفة، فيتم حسابهم أو التقليل من قيمتهم. رابعاً: من حيث دور النشر التي تسعى إلى الكتاب الأكثر شهرة في الساحة، لتحقق من ورائه الأرباح الطائلة فقط، ولا تهمها أمور العمل الفنية. ونتيجة كل ما تقدم ذكره، والكثير مما نعلمه أو لا نعلم به، أمست القصة اليوم ليست بالقصة التي يعرفها الأدب لتكون جاذبة، أي تقريباً فقدت هويتها، إلى جانب فقدها الكبير لجاذبيتها، تلك القصة التي هي بطبيعتها جنس منه قدّم مفهومه وثبّت قواعده في زمن مضى بشكل لافت وملحوظ.
مشاركة :