أحمد العلي: دور المحرر الأدبي ما زال ملتبساً حتى في الغرب

  • 9/7/2019
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

في كتابة الرواية يكثر الحديث عن المحرر الأدبي ودوره في تحرير النص الروائي. وعندما يحضر الجدل عن دور المحرر الأدبي. تتعالى أصوات الروائيين بغياب هذه الدور، أما أصحاب دور النشر فهم يحاولون تغييب أهمية تلك الوظيفة التحريرية. إنها الوظيفة الملتبس مفهومها والغائب حضورها. وفي هذا الحوار الذي قد يكون هو الحوار الأول مع من يمارس وظيفة المحرر الأدبي وهو الشاعر أحمد العلي، الذي يعمل في ترجمة الكتب الأدبيّة وتحريرها. وقد أكمل دراساته العُليا في علوم نشر الكتب والمجلات في مدينة نيويورك، وتدرّب في مجموعة بينغوين راندوم هاوس للنّشر. ألّف أربعة كتب من بينها (كما يغنّي بوب مارلي) و(لافندر، أوتيل كاليفورنيا)، ومن بين ترجماته (اختراع العزلة) و(حليب أسود) و(حكاية الجارية).في عالم النشر العربي، كيف تنظر لدور المحرر الأدبي في صناعة محتوى الكتب الإبداعية..؟ تجربتي مع الكاتب العربي غير موفّقةمرّت صناعة النشر في العالم العربي بأكثر من مرحلة قبل الطفرة الحاصلة الآن، دُور النشر كانت قليلة حتى كادَ الخليج العربي يخلو منها واعتمد كُتّابه على النشر في القاهرة وبيروت. حينئذ، كان الناشر هو آخر من يرى المخطوطة، فصعوبة الوصول إليه تدفع المخطوطة إلى أن تكون قيد النقاش والتعديل فترة طويلة، خصوصّاً وأنه لم يكن لها أن تُكتب إلا إذا كان كاتبها يعيش في وسط أدبيّ ما، فتجري بين أيدي الأصدقاء والثقات من الأدباء، وهؤلاء جميعًا بما يقدمونه من ملاحظات وآراء يمكن القول: إنّه في مجموعه تحرير، فتصل إلى الناشر مشفوعة بتزكيات مهمّة، ولا يُرتقَب منه بعدها سوى توفير الكتاب للمهتمّين. *هل نقول: إن هناك غيابًا للمحرر الأدبي؟ لا أسمي هذا غيابًا، وإنما لم تنضج صناعة النشر بعد لتحتاج إلى موظّف متخصّص تحت اسم محرّر، كانت لا تزال عمليّة حميمة جدًّا مثل فتح الهدايا، وهذا ليس خطأ أحد، الصّحافة كانت أكثر تطوّرًا في نشاطها من نشر الكتب ولهذا فالمحرّر الصّحافي كان موجودًا طوال الوقت. تطوّرت صناعة النشر في العالم العربي بعدها تبعًا للمخطوطات التي باتت تصل إلى الدّور، وتنوّع اهتمامات القُرّاء والنهضة المعرفية والتكنولوجية، فشعر الناشر بالحاجة إلى لِجان استشارية تقيّم كلّ كتاب وفق مجاله وهل تُزكّيه للنشر أم لا. نلاحظ هنا أن مهمّة التقييم هي مهمّة تحريرية أيضاً، لكنها مَهمّة طالب بها الناشر، لا الكاتب، أي أنّها مَهمّة تُساهم في نشر الكتاب لا في خلقه أو تشذيبه. *هل لأن دور النشر العربية مشروعات فردية كانت تهمل هذا الجانب؟ وأيضاً مع الانفتاح الرقمي كيف تصور علاقة الكاتب بدور النشر؟صحيح، لكن تحوّلَ بعضها إلى شركات تقوم على صناعة الكتاب صناعةً متكاملة وذلك عندما استدلّ إليها رأس المال، وآمنت الحكومات بالكتب سلاحًا يشكّل أفكار الشّعوب ويهذّبها فوجّهت بعض أموالها إلى هناك. هذا التحوّل الاقتصادي خلق وظيفة مُصمّم الكتب، ومُنتجها ومُسوّقها وبائعها، ومحرّرها أيضاً، إذ أمكنَ تلمّس جدواهم عبر جُودة المُنتَج ومساهمتهم الاقتصاديّة في الدّورة الماليّة لعمليّة النشر. إذًا يُمكن القول إن الحاجة إلى محرّر هي حاجة حديثة في العالم العربي، وما الجدل الحثيث حول غيابه وضبابيّة دوره سوى صورة من صور انتشار الحاجة إليه، فمع الانفتاح الرقمي ولا نهائيّة مصادر المعلومات، ما عاد الكاتب يولَد بالضرورة في وسط أدبي أيًّا كان، بل صار يخلق هذا الوسط أحيانًا، ويُراسل دور النشر مباشرةً دون تزكيات، ويجرّب كثيرًا في إبداعه، ويحتاج إلى من يتبنّاه ويطمئن إلى حكمه ونُصحه. التحوّل الاقتصادي خلق وظيفة مُصمّم الكتب هل بالإمكان شرح دور المحرر الأدبي لأنه دور ملتبس وغير مفهوم لدى الكثير؟ ما زال هذا الالتباس حاصلًا في الغرب أيضاً. لكن صنعة التحرير الأدبي لها أبطالها الأسطوريّون وتقاليدها العريقة وأسسها التي يتعلّمها المحرّر. فمثلًا من بين المقرّرات في دراستي كانت قراءة الرسائل التحريريّة لماكسويل بيركنز، وهو محرّر هيمنغواي وفيتزجيرالد وتوماس وولف. كذلك اطّلعت على رسائل صَني ميهتا (Sonny Mehta) الذي أشرف على تدريبي، وهو محرّر توني موريسون وجوليان بارنز وكازو إيشيغورو ومايكل أونداتجي، ومهتم كثيرًا بالترجمة فقدّم للقارئ الأميركي أورهان باموك وهاروكي موراكامي وعلاء الأسواني. ودرّستني أيضاً مُحرّرة سلسلة هاري بوتر، وسلسلة توايلايت. وخُلاصة القول في دور المحرّر هو أن له واجبًا تجاه دار النشر، وآخر تجاه المؤلّف، والأهم تجاه الكتاب. إذ يجب أن يقدّم عناوين متنوّعة تستطيع دار النشر العمل عليها تجاريًّا بتعيين الفئات القرائيّة المهتمّة بها وكيفية إنتاجها وتسويقها ووضع خطة ماليّة مسبقة؛ وأن يؤمن بالكاتب بحيث يقوده في عالم الكتب وينصحه في كيفيّة الظهور للقرّاء مثلًا ويفتح له الأبواب الممكنة لصناعة اسم أدبي محترم وتزويده بالموارد الماليّة؛ وأخيرًا عليه العثور على نسخة أفضل من الكتاب الذي يتبنّاه إن وُجدَت، نسخة كامنة فيه وليست من خارجه. يبدأ المحرّر الأدبي بقراءة ما يصل إليه من مخطوطات، فإذا وجد في إحداها ما يبحث عنه (غالبًا 5 % فقط من مجموع المخطوطات)، فإنه يتبنّى العمل لتبدأ العمليّة التحريرية التي تنقسم إلى ثلاثة مستويات رئيسة: التحرير التظهيري أو التطويري (Developmental Edit) (أشبه بتظهير الصورة الفوتوغرافية)، وهو قراءة المخطوط كاملًا والاهتمام بالكُليّات: الحبكة، وتطوّر الشخصيّات، وأصوات الرُّواة، وأسلوب الكاتب، وإيقاع الأحداث وحركة الزّمن، لينتهي هذا المستوى بكتابة رسالة تحريرية يضع فيها الإيجابيات والسلبيات ونصائحه للكاتب الذي له أن يأخذها أو يرفضها. ثم يأتي مستوى التحرير السطري أو الخطّي (Line Edit) وهو يسعى وراء الدقّة الضروريّة في الكتاب جُملةً جملة والتأكّد من تعبيرها عن مقاصد الكاتب، وتتابُع الأحداث تتابعًا صحيحًا وورود الفقرات والفصول حسب ذلك، واتّساق أسلوب الكاتب إن اختلف أو خفت بين هنا وهناك. وبعدها يتقدّم التدقيق (Copyedit) وهو البحث عن الأخطاء اللغوية، والعناية بعلامات الترقيم، والتأكّد من سلامة المعلومات العلميّة والتاريخية. وإذًا نفهم أن هناك فِرَق محرّرين في دور النشر العالمية، وأن على المحرّر الإيمان بأنّه قنّاص أدبيّ على اختلاف الطرائد، وأنّ عليه الإبقاء على دار النشر قائمة بحثًا عن الكتاب الأعجوبة، وأن القُرّاء قلائل (readers are minority) كما قال لي صني ميهتا يومًا، وهو الذي يتحدث عن قُرّاء الكتب الإنجليزية! من خلال ممارستك لهذا الدور كيف ترى تجاوب الكاتب العربي مع المحرر الأدبي؟ لي أكثر من تجربة في هذا المجال لم توفّق جميعها مع أكثر من جيل أدبي، كلّما صار المؤلّف أصغر سنًّا بات مستعدًّا للنقاش وقبول الأفكار المبتكرة. جمْع وتحرير كتابات محمد العلي من أرشيف عدّة جرائد ومجلات تعود أقدمها إلى الستينيات، عندما كانت الصّحف تحوي أربع صفحات فقط، أكسبني خبرة عمليّة واطّلاعًا على الصحافة الأدبية السعودية، لكن ذلك لم يشفع لرؤيتي المختلفة لأشعاره وإصدارها في الكتاب الأخير (لا أحد في البيت) إذ أطلق عليّ بعض أقرانه وقُرّاءه تُهمًا باطلة مثل غمامة سوداء انقطعت بسببها الصّلة بيننا. بذلت جهدي أيضاً في تحرير رواية (زائرات الخميس) لبدرية البشر، بما تحتمله الرواية، كانت تجربة أوّليّة وأنيقة وأقدّر تجاوب بدرية معي إلى الآن، وبالمثل أميمة الخميس في (مسرى الغرانيق)، لكنها لم تصدر بتحريري مثلها مثل رواية جبير المليحان (أبناء الأدهم). في حين لم يحتج عبدالله البصيّص في روايته القادمة (قاف قاتل) إلى كثير ممّا أستطيعه. القاعدة هنا ألا يفرض المحرّر نفسه على الكتاب، فاسم الكاتب هو الذي سيظهر على الغلاف (بالإمكان مراجعة عمل المحرّر غوردن لِيْش على قصص ريموند كارفر في مستوى مختلف). هل وظيفة المحرر الأدبي هي نتاج دراسة أكاديمية أم أنها موهبة تكتسب ونتاج خبرات كتابية وقرائية؟ لا يولد المرء محرّرًا أدبيًّا، كما أنّه لا يولد كاتبًا أيضاً. المحرّر والكاتب يجلسان إلى طاولة واحدة لكن لكلّ منهما شغله في الكتاب الموضوع بينهما. كانت توني موريسون محرّرة أدبيّة حتى تفرّغت للكتابة، ويرد اسم الناشر الكبير حسن ياغي محرّرًا يقدّره كثيرون. غالبًا يأتي الرّاغب في امتهان وظيفة المحرّر بشهادات في الصحافة أو الدراسات الأدبية حاملًا خبراته القرائيّة معه، هذا يكفي لتحرير كتاب لكن لا يكفي للنهوض بدار نشر، هنا يأتي دور الشهادة الأكاديمية المتخصّصة في علوم النّشر لإكمال الصورة. د. بدرية البشر

مشاركة :