هذا نوع من الأسئلة ذات الطابع الإلحاحي الذي يعاود المشهد السياسي العربي كل فترة وأخرى، بمحفّزات مباشرة، مدفوعاً بارتفاع وتيرة التواصل البشري بين التجمعات الإنسانية. فلطالما كانت بحبوحة العيش والرغبة في التنعّم أمراً فطرياً نسعى له بكل ما نملك من أجل الوفاء بالالتزامات المادية وحتى المعنوية.. إلا أنه وبدافع التقليد وحب الاكتشاف والتجربة، تبدأ النفس البشرية تتطلع لسبر أغوار تجارب جديدة، ومنها تجربة المشاركة السياسية وصنع القرار دون الالتفات لأيّ من المسوّغات التي تتيح لنا ذلك، وإذ نشير إلى تلك الرغبة، فإن من الضروري أن نعلم بأن الرغبات لا مكان لها في "مثلث ماسلو" ذي الصبغة الفطرية، والذي تتكون قاعدته من الحاجات الفسيولوجية، ثم الحاجة إلى الأمن، وهكذا حتى نصل إلى قمة الهرم حيث الابتكار وحل المشاكل باعتبارها حاجات لتحقيق الذات، والفرق بين الحاجة والرغبة دار حوله جدل فلسفي عريض. في واقع الأمر يجب علينا أن نعلم أن الديموقراطية في العالم بوصفها فعلاً سياسياً، لا تلبث إلا أن تكون مفهوماً مطاطياً تجاوز حدود نشوئه الإغريقية وتطوّره، ليستحيل مفهوماً نراه اليوم يُفسّر حسب الحالة، وحسب ما تقتضيه الحاجة والظرف دون الالتفات لحدود تعريف قياسية، بل أصبح تعريفاً ذا طابع إجرائي. المواطن العربي اليوم أمام كثير من الاستحقاقات العالمية يرى في نفسه القدرة على فعل أشياء كثيرة، ويراها حقاً إذا سلمنا بذلك، وتطلّعه لها لا يجب أن يتم بعبثية، وإن من الضرر النظر إلى المشاركة السياسية بوصفها ترفاً شعبياً نمارسه، بل هي مرحلة نضج ومسؤولية لا يمكن الوصول لها من مرحلة الطفولة دون المرور بمرحلة التربية السليمة لنعبر المراهقة ونصل إلى مرحلة النضوج المرجوّة، وإن استعجال تلك المراحل ومحاولة تجاوزها يخلقان فجوة لا يلبث المواطن العربي إلا أن يعيش مشاكلها فيعود إلى نقطة البداية كي يتلقى التربية المناسبة.. وهكذا هو الحال أيضاً في استعجال التنمية. إذن فالأوْلى بنا في منطقتنا العربية أن نجعل التنمية أساساً للانطلاق نحو الديموقراطية إن أردنا أن نسمّيها كذلك، وألا نستدعي الديموقراطية قبل مرحلة التنمية التي تهيئنا بسيئاتها وحسناتها، لتمكنّنا من التمدّن بكل أبعاد هذا المصطلح، من أجل الوصول بسلام نحو المفهوم الذي نعنيه ونريده للمشاركة السياسية. وإننا نذكر هنا تجربتين حريٌ بنا الوقوف أمامهما لنفكر قليلاً، وهي من واقع عالمنا الحديث، وأشير هنا إلى تجربتي كوريا الجنوبية والصين الشعبية، فالبلدان تقريباً تشكّلا سياسياً كما نراهما في الوضع الحالي في أربعينيات القرن الماضي، وواصلا مرحلة التنمية، وواجها الكثير من العقبات الصعبة والانتكاسات والسقطات والحكم العسكري والدكتاتوري.. وإذ نرى اليوم أمامنا دولتين هما في قائمة الدول الأكثر نجاحاً على المستوى الاقتصادي والأكثر استقراراً على المستوى السياسي، يجب أن نعرف أن الأمر كان مرتبطاً بمفتاح التنمية.. فكوريا الجنوبية عرفت نهضتها الاقتصادية الشاملة في أواخر الستينيات إبّان عهد "بارك تشونغ هيه" قائد الانقلاب العسكري الذي أصبح رئيساً فيما بعد.. وكذلك الصين الشعبية التي انطلقت نحو العالم بأجندة تنموية بقيادة الشيوعي "دينغ سياو بينغ" الذي قادها بين 1978م – 1992 م. وكل منهما لديه تفسير مختلف للديموقراطية.. ومفهوم واحد للتنمية.
مشاركة :