تفاقم الأوضاع الاقتصادية في أميركا اللاتينية

  • 9/15/2019
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

عاماً وراء عام، يتزايد مستوى الفقر في منطقة أميركا اللاتينية ككل، مقارنة بالمناطق الأخرى في العالم، أما مقولة إن البرازيل كانت وستظل البلد العملاق الواعد في هذا الإقليم فباتت نكتة مستهلكة إلى حد كبير. وينطبق المفهوم ذاته على بقية الدول المجاورة. وتظهر الأرقام الإحصائية المتاحة لمعدلات الأداء في العام الحالي أن أميركا اللاتينية منطقة مخيبة للآمال من الناحية الاقتصادية، فقد انكمش اقتصاد البرازيل بصورة طفيفة في خلال النصف الأول من العام، ولم تسجل المكسيك نمواً على الإطلاق. أما الأرجنتين، فتتجه إلى أزمة مالية جديدة وكارثية. ولا يجب أن ننسى فنزويلا في هذا السياق، فلن يتبقى لها أي اقتصاد تقريباً، بعد أن انكمش مجدداً بنسبة تتراوح بين 25% و35% في العام الجاري، فخلال الأعوام الستة الماضية، تبخر قرابة الثلثين من ناتجها الاقتصادي السنوي. ويرى معهد التمويل الدولي أن هذا الأداء يشكل ثاني أضخم تراجع من نوعه في العالم لأي دولة حتى الآن. وكانت نظرة سلبية خيمت على القارة منذ بداية العام، وسارع خبراء الاقتصاد إلى تخفيض توقعاتهم للإقليم ككل. ويتوقع صندوق النقد الدولي أن يسجل الإقليم متوسط نمو نسبته 0.6% فقط في العام الجاري، مقابل توقعات سابقة قدرت النسبة بنحو 1.4%. وعلى المستوى العالمي، يتوقع الصندوق أن يسجل اقتصاد العالم ككل نمواً نسبته 3.2%. دواعي خيبة الأمل وتتباين أسباب خيبة الأمل في اقتصاد أميركا اللاتينية من دولة إلى أخرى، فبالنسبة للمكسيك على سبيل المثال، تتوجس أنشطة المال والأعمال من فكرة الاستثمار نتيجة لقرار الرئيس أندريه مانويل لوبيز أوبرادور بإلغاء مشروع مطار العاصمة مكسيكو سيتي الجديد، بعد أن قطعت إنشاءاته شوطاً كبيراً. ولعل تهديدات الرئيس الأميركي دونالد ترمب بفرض رسوم جمركية عقابية على صادرات المكسيك قد فاقمت الوضع بشكل إضافي. رغم هذا، يمكننا تعقب أسباب أخرى أكثر عمقاً لهذا الوضع البائس. فعلى مدار الأعوام الخمسة الماضية، وصل متوسط معدل النمو السنوي في الإقليم ككل إلى 0.66% أي أقل بكثير من المتوسط العالمي، وتظهر دراسة أجراها معهد «ماكينزي» العالمي أنه خلال الفترة من 2000 إلى 2016 نمت هذه المنطقة بنسبة 2.8% مقابل 4.8% سجلتها 56 دولة أخرى من الاقتصادات الناشئة، باستثناء الصين. وحدث هذا الأداء المخيب رغم طفرة أسعار السلع التي ترفع معدلات النمو في العادة. بمعنى آخر، يمكننا القول إن أميركا اللاتينية تزداد فقراً من عام إلى عام مقارنة ببقية أرجاء العالم، وعلينا أن نمحو من ذاكرتنا الآن أن الأرجنتين كانت ذات يوم أغنى من إيطاليا، وأن فنزويلا نعمت يوماً ما بثراء يفوق إسبانيا بكثير. وما يزيد الأمر سوءاً، أن هذا الإقليم لم يسجل نمواً في وقت نعمت فيه البيئة الاقتصادية العالمية بظروف مواتية تميزت بنمو مطرد، وأسعار فائدة منخفضة على الائتمان، ولا يتوقع أن تستمر هذه الظروف المواتية إلى الأبد بطبيعة الحال. إذ تتوافر مؤشرات على نذر للإبطاء الاقتصادي في الولايات المتحدة ومناطق أخرى من العالم. ويتوقع صندوق النقد أن تسجل أميركا اللاتينية نمواً نسبته 2.3% العام المقبل، مع بقاء مخاطر التراجع قائمة. ومازال اقتصاد دول أميركا الجنوبية يعتمد على تصدير المواد الخام ومنها النفط، وفول الصويا، والمعادن. وما زالت دول الإقليم تحت أثر طفرة أسعار السلع التي أحدثتها الصين منذ بداية الألفية الثالثة، ما أدى إلى رفع معدلات النمو، وزيادة الدخول، وأدارت دول مثل شيلي وبيرو وكولومبيا عوائدها بحكمة خلال تلك الفترة، ونجحت في النمو رغم تباطؤ الاقتصاد الصيني وانتهاء حقبة طفرة الأسعار. أما الدول ذات نظم الحكم الشعبوية مثل البرازيل، والأرجنتين، وفنزويلا، فلم تدخر كثيراً من الأموال التي جنتها. بل إن الدول الثلاث أنفقت أكثر بكثير من ما جمعته من عوائد عن طريق طباعة البنكنوت، أو الاستدانة، أو الاثنين معا، ويوصف هذا الوضع بالمهرجان المالي، على سبيل التندر. ومن ثم دخلت هذه الدول في دوامة من الركود أو حتى الأزمة. أما ورطة الأرجنتين الحالية فتعكس مدى صعوبة الخروج من نهاية طفرة ما، فبعد توليه السلطة في عام 2016، بدأ الرئيس الأرجنتيني موريشيو ماشري في خفض الدعم تدريجياً عن الكهرباء ووسائل النقل لمعالجة عجز الموازنة، ثم توسع في الاقتراض لتغطية الفجوات التمويلية المتبقية. ولتحقيق معدلات من النمو، زادت حكومته الأرقام المستهدفة للتضخم، واعتمدت على البنك المركزي في تخفيض أسعار الفائدة. وفي نهاية المطاف، أدت هذه السياسة إلى اندفاع المواطنين على البيزو، ما رفع أسعار الفائدة إلى أعنان السماء. وتسبب هذا بدوره في حالة من الشلل الاقتصادي، وإسراع الأرجنتين إلى صندوق النقد الدولي طلباً للمساعدة. ومن المستبعد أن يصوت الناخبون في الأرجنتين مجدداً لمصلحة الحركة البيرونية المسرفة الحاكمة الحالية عندما يحين موعد الانتخابات العامة في الشهر المقبل. وفي مناورة بائسة للبقاء في السلطة، لجأ الرئيس ماشري إلى الأساليب البيرونية المتعارف عليها، فألغى ضريبة المبيعات على المواد الغذائية، وجمد أسعار الوقود مؤقتاً. ويتوقع غالبية الخبراء الاقتصاديين عجز الأرجنتين عن سداد ديونها من جديد، نتيجة لتسبب حالة الركود الحاد الراهنة في تقليص إيرادات الدولة. وبالنسبة للبرازيل، فهي تحاول حالياً تنشيط اقتصادها الراكد بشتى السبل الممكنة، وتسعى حكومة الرئيس بولسونارو إلى سرعة تمرير مشروع قانون إصلاح المعاشات والذي يتوقع منه أن يمنع إشهار إفلاس البرازيل خلال الأعوام القليلة المقبلة. كما تحاول الحكومة تخفيف قبضة اللوائح التنظيمية وتحسين الإجراءات الإدارية لاجتذاب الاستثمار الخارجي، وكان البنك الدولي قد صنف البرازيل في المرتبة 109 من بين 190 دولة على صعيد سهولة أداء الأعمال. ويسبق البرازيل في هذه القائمة بابوا غينيا الجديدة ويعقبها نيبال. رغم هذه الإجراءات، فإن أزمة أميركا اللاتينية تبدو أعمق بكثير، وتتطلب خططاً أوسع بهدف التغلب على التحديات القائمة وأبرزها: انخفاض معدلات نمو الإنتاجية، وأعلى معدلات في العالم للجريمة، وانعدام المساواة الاجتماعية، وضعف المؤسسات، والفساد، وتردي المستويات التعليمية. فهل تنجح دول القارة في هذه المهام؟

مشاركة :