منذ ترشحه في الانتخابات الرئاسية السابقة في العام 2016 كان واضحا أن الحرس القديم وقادة الحزب الديمقراطي لا يرغبون في أن يمثل حزبهم المرشح المستقل ذو الميول التقدمية بيرني ساندرز، ففي الجولة التمهيدية لتلك الانتخابات حسم الصراع بين السيناتور بيرني ساندرز ووزيرة الخارجية هيلاري كلينتون ممثلي الحزب فوق العادة (Super Delegates) غير المنتخبين، في انحياز واضح وغير ديمقراطي باتجاه السيدة التي تمثل رأس المال والحرس القديم. لا يبدو أن الأمر مختلف هذا المرة، وحسب كورنيل ويست أستاذ الفلسفة في جامعة هارفارد وأحد أهم الناشطين السياسيين في الولايات المتحدة قال في مقابلة تلفزيونية: إن الديمقراطيين مستعدون لترشيح أي شخص، بشرط ألا يكون بيرني ساندرز. وهذا استنتاج يمكنك تلمسه من خلال التغطية التلفزيونية، بل ويمكن تلمسه أيضا من خلال الدفع بترشيح نائب الرئيس الأميركي السابق جو بايدن ليخوض الانتخابات التمهيدية في مواجهة ساندرز. الأرقام تقول: إن بايدن حسب الاستطلاعات لديه نسبة أعلى من القبول في أوساط الديمقراطيين، ولكن لا يجب أن ننسى هنا عدد المرشحين للانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، والتي وصلت في مرحلة من السباق إلى 24 مرشحا عن الحزب الديمقراطي، وحتى الآن هم عشرون مرشحا، وبالتالي فإن أرقام نسبة قبول بادين لا تعطي الانطباعات ولا التوجهات الصحيحة للناخب الديمقراطي والتقدمي. لسنا هنا بصدد الدفاع عن ساندرز أو سياساته، وإن كانت سياسات الرجل وخطابه استخدمت من قبل منافسيه للوصول إلى قاعدته الشعبية من أجل كسب المزيد من الأصوات، ولكن ما يميز بايدن عن ساندرز من ناحية الأرقام هو نسبة قبول بايدن بين الأفارقة والسود الأميركيين، فالرجل حسب آخر استطلاع يحظى بنسبة قبول 42% من الناخبين السود، ويعود هذا القبول إلى أن الرجل خدم كنائب رئيس لأول رئيس أسود وهو باراك أوباما، مع أن الرجل لم يقدم شيئًا حقيقيًا لتحسين حياة السود في الولايات المتحدة. ويبدو جليًا من إصرار الحرس القديم في الحزب الديمقراطي على عدم ترشيح أو محاولة تقليل فرص ساندرز بالفوز، عدم رغبتهم في أن يقود الحزب شخص يقول عن نفسه إنه اشتراكي ديمقراطي، وهم بذلك يعيدون تجربة استبعاد هنري والاس نائب الرئيس فرانكلين روزفلت، والذي تم استبعاده من قبل رأس المال الأميركي في مؤتمر الحزب الديمقراطي عام 1944 في مدينة شيكاغو، لأن توجهات الرجل اليسارية والاشتراكية كانت طاغية جدا، وكانت أحد أسباب طرده من إدارة هاري ترومان لاحقا بسبب مواقفه التصالحية مع الاتحاد السوفياتي، وخوضه الانتخابات الرئاسية لاحقا عام 1948 تحت مسمى الحزب التقدمي الذي أنشأوه هو ومناصروه من الحزب الديمقراطي. ما يطرحه ساندرز، من وجهة نظر رأس المال الأميركي ينسف كل البنى التحتية للرأسمالية وسياسات السوق الحر، وهو خطاب التزم به ساندرز على مدار عقود من عمله ونشاطه السياسي. ولكن ما يحدث الآن هو أن الرجل يتم محاربته من خلال خطابه الذي تبناه واعتبره قاعدة انطلاق نحو حلمه في الوصول إلى المكتب البيضاوي. كل المعطيات في انتخابات 2016 منحت ساندرز أفضلية كبيرة على الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ولكن هذه الأفضلية وبكل موضوعية لم تعد قائمة الآن: ويمكن أن نسرد عدة أسباب. أولا: كثرة عدد المرشحين الديمقراطيين للانتخابات التمهيدية تضر بجميع المرشحين بمن فيهم ساندرز، فجميع هؤلاء يسعون لاستقطاب قاعدة الحزب الديمقراطي والمستقلين التقدميين من خطاب محفز ويلبي بعض مطالبهم، على خلاف انتخابات 2016 من حيث كان عدد المتنافسين الديمقراطيين خمسة ومنهم من لم يصمد إلا جولة في الانتخابات التمهيدية. ثانيا: محاولة استقطاب القاعدة الانتخابية تتطلب الكثير من الأموال، وهذه الأموال تأتي من جيب الناخب، فهو من يمول الحملات الانتخابية، وبالتالي هناك حالة استنزاف للقدرات المالية للمرشحين وبالتالي للحزب، وعليه من سيمثل الحزب ستكون لديه أموال أقل لصرفها على الحملة الانتخابية في مواجهة الرئيس ترامب، والذي أثبت في الانتخابات الماضية أنه قادر على التلاعب بالإعلام والإعلاميين الأميركيين، ومنحه ما قيمته ثلاثة مليارات دولار بث تلفزيوني بسبب تصريحاته. ثالثا: وله علاقة بالنقطتين الأولتين، وهو أن الحزب والمنافسة الكبيرة بين هؤلاء المرشحين لن تسمح لأي منهم أن يبني استراتيجية حقيقة لمواجهة ترامب بسبب الانشغال في المنافسة الحزبية. وهنا نردف ما قاله رئيس حملة ترامب السابق ومستشاره الاستراتيجي ستيف بانون، والذي قال في مقابلة تلفزيونية مع قناة “سي إن إن” موجها كلامه للديمقراطيين في وقت سابق من هذا العام حين قال: “إن كنتم لا ترغبون في استمرار رئاسة ترامب صوتوا لاخراجه من البيت الأبيض، ولكن إن لم يكن لدى الديمقراطيين مرشح واحد قوي بحلول خريف هذه العام، فإن الرجل باق”. بالنسبة لبانون هذه نظرة تفاؤل، خاصة وأنه ساهم شخصيا في فوز ترامب، ولكن للكل الديمقراطي والتقدمي في الولايات المتحدة هذا توقع لا يريدون سماعه ويعلمون صعوبة المهمة في ظل المزاج الشعبوي والقومي في أميركا والعالم. على الرغم من استطلاعات الرأي المتفائلة، والتي تقول إن خمسة من المرشحين الديمقراطيين قادرين على هزيمة ترامب على الأقل بتسعة نقاط، هذا تفاؤل يصعب قبوله. حتى هيلاري كلينتون منحتها استطلاعات الرأي أفضلية على دونالد ترامب، ولكنها خسرت مع أنها ربحت التصويت الشعبي بفارق ثلاثة ملايين صوت، وربما هو الفارق الأكبر لخاسر في الانتخابات الرئاسية. يبقى العنصر الأهم لأي مرشح ديمقراطي سيواجه دونالد ترامب، هو قدرته على تحفيز الديمقراطي والتقدمي على حد سواء من أجل الفوز بالانتخابات.
مشاركة :