حدث غير مرة في مهرجان «كان»، أن كان ثمة الى جانب رئيس لجنة تحكيم المسابقة الرسمية، التي تعتبر التظاهرة الأساس في المهرجان، من يُعتبر نائبه. فقبل سنوات على سبيل المثال، كانت كاترين دونوف «نائباً» لكلينت إيستوود يوم ترأس لجنة التحكيم. ولكن، في حدّ علمنا، لم يسبق للجنة التحكيم أن كانت برئاسة شخصين متكاملين، لكلّ منهما مكانة الآخر وصلاحياته. ومن هنا، يحدث هذا للمرة الأولى هذه الدورة، حيث أُسندت الرئاسة الى الأخوين جويل وإيثان كون مجتمعين متضافرين. والحقيقة أن مثل هذا الاستثناء كان من شأنه أن يثير لغطاً وربما احتجاجاً في الأوساط السينمائية، لولا معرفة الجميع بأن الأخوين كون هما في واقع الأمر أشبه بالتوأم السيامي: شخص واحد في جسدين، وعقل واحد في رأسين. فهما، منذ دخلا عالم السينما من بابه العريض قبل نحو ثلث قرن، لم يعملا إلا معاً، كتابةً وإنتاجاً وإخراجاً... ولم يلقَهما أحد إلا معاً. بل من الصعب دائماً، تحديد القسط الذي يقوم به أحدهما من أشغال الفيلم والقسط الذي يقوم به الآخر، حتى وإن ذُكر في بعض الأحيان بصدد فيلم من هنا أو فيلم من هناك، أن أحدهما هو المخرج والثاني هو كاتب السيناريو. بل حتى في الحوارات الصحافية القليلة التي يقبل الثنائي بإجرائها، غالباً ما يتناوب الإثنان على الإجابة عن الأسئلة معاً، ومن دون تنسيق، بحيث يكمل أحدهما جملة الآخر أمام دهشة الصحافي الذي يسألهما، ملاحظاً أنهما نادراً ما يتعارضان في حديثهما. من السينما الى السينما منذ ثلث قرن وحالهما كذلك. ومنذ ثلث قرن والأخوان كون يقدّمان سينما من الصعب القول إنها تختلف عن السائد الهوليوودي. ولكن من السهل القول إنها تتميز عن هذا السائد، وتكاد تختصره في شكل ندر للسينما أن عرفت كيف تختصر فن السينما. وسنوضح هذا الأمر بعد قليل. أما هنا، فلا بأس ببعض الأرقام الموضحة. منذ عام 1984 الذي ظهر فيه فيلمهما الروائي الطويل الأول «دم بسيط»، وحتى عام 2013 الذي عرض فيه آخر فيلم لهما منجز حتى الآن، «داخل لوين دايفز»، أنجز جويل وإيثان كون ستة عشر فيلماً، حقّق معظمها نجاحات تجارية لا بأس بها لهذا النوع من السينما، لكن الغالبية العظمى منها حققت من النجاح النقدي والمهرجاني ما وضع صاحبيها في مقدّم جيلهما من السينمائيين الأميركيين، الذي يضمّ إليهما أمثال تيم بورتون وجيم جارموش ودافيد لنش، وصولاً الى دافيد كروننبرغ. فالحال أن جويل (مواليد 1954) وإيثان (مواليد 1957)، ينتميان مباشرة الى الجيل الذي يُعتبر تالياً لجيل «أصحاب اللحى» (كوبولا، سكورسيزي، سبيلبرغ، دي بالما...)، وهو جيل عاش في ظل الثورة التي أحدثها أصحاب اللحى هؤلاء في العالم الهوليوودي، ممهّدين لإيجاد أشكال ومضامين جديدة في أفلام يمكن أن يقال عنها إنها أمنت ذلك العبور من الحداثة الى ما بعد الحداثة، بما تضمّنه ذلك من عودة الى سينما المؤلف. أما بالنسبة الى الأخوين كون، فإن في وسعنا القول إن ما ميّز سينماهما، في معظم أفلامها إن لم يكن فيها جميعاً، إنما كان انطلاقهما من السينما نفسها الى السينما. فحتى لو كان واحد منهما فقط قد درس السينما في نيويورك فيما غاص الثاني في دراسة الفلسفة، فإن الاثنين غرفا من السينما باكراً حتى من قبل أن تصبح مهنتهما بسنوات. إن السينما، والسينما الهوليوودية تحديداً، هي ما كوّن الشابين منذ البداية. ومن هنا، لن يكون غريباً حين اكتمل جزء من متنهما السينمائي، أن يركّز دارسو سينماهما على مكانة السينما في هذه الأعمال، علماً أن ذروة شعبية الأخوين لن تتحقق إلا مع فيلمهما الثاني عشر الذي أمّن لهما أربع جوائز أوسكار فخمة في عام 2008. وهذا الفيلم هو بالطبع «ليس هذا وطنا للعجائز»، وكان الاثنان حين حققاه قد تجاوزا الخمسين من العمر. وهو ما عبرا عنه في حفلة تسلّم الجوائز. من خلال تلك الحفلة، حقّق الأخوان تتويجاً لا شك في أنهما كانا يحلمان به منذ زمن بعيد. لكنه، الى هذا، لم يكن تتويجاً عادياً، إذ نعرف الآن أنهما، شخصياً، نالا ثلاثاً من الجوائز الكبرى التي أعطيت للفيلم - وهي مأثرة لم يسبقهما إليها في تاريخ هوليوود وأوسكاراتها، سوى عدد قليل من المخرجين، ومنهم بيلي وايلدر وفرانسيس فورد كوبولا -، أما الرابعة فنالها خافيير بارديم عن الدور الثانوي العنيف الذي يلعبه في الفيلم نفسه. صحيح أن أوسكاراً لأفضل سيناريو، كانت أعطيت للأخوين عام 1996 عن فيلم «فارغو»، ولكن أن تنال أوسكاراً عن السيناريو شيء، وأن تنال أوسكار أفضل فيلم وأفضل إخراج وأفضل سيناريو مقتبس، وفي وقت واحد، شيء آخر تماماً. إذاً، بعد أن تجاوز جويل وإيثان الخمسين من العمر، وبعد أن حققا معاً دزينة من الأفلام، جاءهما التكريم الأسمى، الذي لا ريب أنه يعني بالنسبة إليهما أكثر مما عنته دزينة من جوائز كبيرة أخرى (منها سعفة ذهبية في «كان» («بارتون فينك»)، ومرتان جائزة أفضل إخراج، وجوائز أخرى أقل أهمية). حين وقفا على المنصّة، لا شك في أن كلاً منهما راح يتأمل على طريقته، ذلك المسار السينمائي الذي قطعاه معاً، في ظاهرة لافتة إنما غير نادرة في تاريخ السينما، إذ لدينا اليوم ثنائيات عدة تتألف من أخوين يعملان معاً (داردين في بلجيكا، تافياني في إيطاليا، وأروشفسكي وهيوز في أميركا وبريطانيا... وما شابه). نبض اللغة بدأت «ظاهرة» الأخوين كون السينمائية إذاً، عام 1984، حين عرض فيلمهما الأول «دم بسيط» الذي قُدّم باسم الإثنين معاً، ليحقق من فوره نجاحاً كبيراً، ليس بفضل موضوعه البوليسي الأسود، بل بفضل لغة سينمائية ذات نبض، وتعامل جديد مع الممثلين والبيئة المصوّرة. وأيضاً، بفضل سيناريو محبوك بقوة. ومع عرض هذا الفيلم، تنبّه النقاد الى أن الأخوين كون كانا قبل ذلك كتبا سيناريوات قوية لمخرجين آخرين. ومنذ «دم بسيط»، صارا يكتبان السيناريو لأفلامهما الخاصة، لكن من دون أن يعرف أحد تحديداً، من يكتب أو من يخرج أو ينتج. لاحقاً، صار شبه واضح أن مسؤولية الإخراج تقع أساساً على جويل، فيما تقع مسؤولية السيناريو والإنتاج على الاثنين معاً. أما بالنسبة الى التمثيل، فكان لهما جمع متحلّق من حولهما، ربما من أبرز أركانه: فرانسيس ماكدورماد، زوجــــة جــــويل (التي نالت أوسكار أفضل ممـــثلة عن «فارغو»)، وجون تورتورو. وبعـــد ذلك، توسّعت الحلقة في وقت كان الأخـــوان، بعد بدايات في إطار السينما شبه المستقلّة، قد بدآ يتّجهان صوب نظـــام النجوم والسنيما الشعبية، إنما في تركيز على الكوميديا السوداء والحوارات اللئيمة الساخرة، من دون تنــــازلات كبيرة عن مستوى معين، لا شكّ يمكـــننا ملاحظته في معظم أفلامهما، بما فيها الأكثر تجارية والتي حققاها خلال مراحل متفرّقة من مسارهما، ولا سيما قبل أن يفجّرا «قنبلة» «ليس هذا وطناً للعجائز»، التي أعادتهما الى مستويات «تربية أريزونا» و «ممر ميلر»، وبخاصة «بارتون فينك» الفيلم الرائع المأخوذ عن فصل من حياة ويليام فولكنر، حين عمل كاتب سيناريو في هوليوود أواخر ثلاثينات القرن العشرين... والحقيقة أن «بارتون فينك» (1991) كشف عمق علاقة الأخوين المبدعين بالسينما كتراث ومرجع، ذلك أن هذا الفيلم يعتبر منذ ذلك الحين واحداً من أهم الأفلام التي تحدثت السينما فيها عن نفسها. مهما يكن، فـ «بارتون فينك» ومعظم الأفلام التي حققها الأخوان من بعده، كشفت في طريقها أن الأخوين كون لم يتحدثا، في كل أفلامهما، أصلاً، إلا عن السينما. مرات عبر استعادة أنواعها القديمة الأسطورية وتطويرها (كما في الأفلام البوليسية الأولى «دم بسيط» - 1984 - و «تربية أريزونا» 1987)، أو عبر إعادة تصوير حديثة لأفلام ومواضيع قديمة (كما في «قاتلو السيدة» - 2001 - و «يا أخي أين أنت؟» المستلهم في شكل غامض من «رحلة ساليفان» لبرستون ستارجز، الذي كان بدوره فيلماً عن السينما، ثم قبل أعوام قليلة في «عزم أكيد» - 2010)، أو أخيراً عبر استنباط أنواع سينمائية جديدة، انطلاقاً من المزج بين أنواع قديمة متعددة (كما في «فارغو» و «ليبوفسكي الكبير» 1998) - أو الإضاءة على سينما في غاية الشعبية (كما في «قسوة لا تغتفر» مع جورج كلوني وكاترين زيتا جونز). وأيضاً عبر فيلمين يقفان خارج كل تصنيف («هادساكر بروكسي» - 1994، و «الحلاق... أو الرجل الذي لم يكن هناك» - 2001). والحقيقة، أن هذا الفيلم الأخير كان واحداً من أقوى أفلام الأخوين وأجملها. وهو حين فاز في دورة عام 2001 لمهرجان «كان» بجائزة أفضل إخراج، ساد احتجاج عميق لعدم فوزه بالسعفة الذهبية. ولربما يصحّ القول إن تعويضاً «كانيّاً» ما تحقّق لهما قبل عامين حين فاز فيلمهما البديع «داخل لوين دافيز» بإحدى الجوائز الأساسية، وصولاً الى التعويض الإضافي وربما التكريسي الذي يمثّله اليوم اختيارهما معاً لرئاسة لجنة التحكيم في ما يعتبر أهم مسابقة سينمائية في العالم. مهما يكن، من بعد «الحلاق...» (وقبل أن يعودا بقوة في السنوات الأخيرة عبر أفلام أوصلتهما الى ذروة جديدة في مسارهما، منها إلى ما ذكرنا، «رجل جادّ» الذي ربطهما في شكل شديد الوضوح بجذورهما اليهودية، ليحدّثنا مجدداً عن «الخاسرين» الذين يملأون سينماهما - كما في «بارتون فينك» أو «الحلاق»)، ولأسباب غير واضحة، تراجع جويل وإيثان عن المستوى السينمائي الذي بلغاه فيه (لا سيما بصورته السوداء والبيضاء المرتبطة بسينما هوليوود في الأربعينات)، ليحققا العملين التجاريين المتتاليين «قسوة لا تغتفر» و «قاتلو السيدة»، الثاني إعادة تحقيق لفيلم إنكليزي من سنوات الستين فضّله النقاد كثيراً عن نسخته الجديدة، فيما أتى الأول شبيهاً بسينما الأربعينات التي تصوّر مناورات المحامين وحكايات الطلاق والزواج من جديد... وما إلى ذلك. في انتظار اليوم الأخير مهما يكن، اليوم إذ يكلّل مجد التحكيم في «كان»، بعد مجد «الأوسكار»، هامة الأخوين، لا شك في أن جويل وإيثان كون سيفكران كثيراً قبل الإقدام على خطوات تالية. لكنهما في الوقت نفسه، سيشعران أنهما فتحا ثغرة لا بأس بها، في عالم إبداعهما. فأين ستكون وجهتهما التالية؟ بل أي مجد سينمائي سيسعيان إليه من الآن وصاعداً؟ أسئلة لا شك في أن كثراً سيطرحونها خلال أيام «كان» المقبلة، حيث في غياب الأسماء الهوليوودية الكبيرة نسبياً عن المسابقة الرسمية، من المؤكد أن الأخوين، وعلى رغم تكتّمهما الأسطوري، سيكونان نجمين كبيـــرين من نجوم المهرجان... وربما سيـــساعدنا إعلان النتائج في اليوم الأخـيـــر، على معرفة أمور إضافية حول ذوقهــما السينمائي خارج إطار ما اعتادا أن يعبّرا عنه في أفلامهما، التي صارت اليوم جزءاً أساسياً من تاريخ السينما.
مشاركة :