عنادها أصيل، وسطوتها أقوى، يخضع لها جبابرة الوزراء الذين غادروها تباعاً بعد أن أعجزتهم الحيلة، وأنشبت فيهم أنيابها البيروقراطية. يأتيها الوزير بروح التغيير والتحديث فلا يلبث أن يغرق في ملفاتها وينشغل بتفاصيلها، فينسى طموحه ويبقى كل أمله أن يخرج لا مذموماً ولا مشكوراً. كانت في السابق أكثر صبراً على وزرائها، تلتهمهم بصبر على مدى سنوات، ثم توحشت، حتى أنها استقبلت خلال عام واحد أربعة وزراء كأنهم في اختبار تحدٍّ سريع يخوضه الآن فارسها الجديد خالد الفالح من الشركة السعودية الأكبر على مستوى العالم، وذات الممارسة المهنية العالية، ما جعلها من مفاخر السعودية وعلامات تميزها. وزارة الصحة كانت الأولى في الدعم، على رغم أن المستشفيات العسكرية تريحها من جميع موظفي القطاع العسكري وعائلاتهم، ويبتعد منها القطاع الخاص بتأمينه الطبي، ومع ذلك كان خطابها نظرياً واستعراضياً، أما خدماتها فهي الشكوى المتزايدة لتصبح لغزاً مزمناً يستحيل حله. هي الرفيق منذ شهادة الميلاد إلى شهادة الوفاة، هي السرير المفقود مهما كثرت مبانيها، هي الحلم بعلاج نقي من الأخطاء والكوارث لكنه لم يتحقق، هي الخوف والترقب حين تغلق سبل الشفاء فلا يكون ثمة درب سواها. في عام 2003، كان وزيرها أسامة شبكشي يقول إن 98 في المئة من السكان مغطون بخدمات الرعاية الصحية، ثم تبخرت هذه المراكز لتعود بعد ذلك بسنوات فكرة جديدة مقترحة من حمد المانع، فلا أحد يسأل عن ضياع السنوات والأموال في هذه الخدمة. «الصحة» أرهقت القيادة التي تنبش كل يوم عمّن يروّضها فلا يلبث أن يغادرها رافعاً الراية البيضاء، وإن زاد الوضع ارتباكاً وتداخلاً. اليوم تتخوف هذه الوزارة العتيدة من وزيرها الجديد الذي هبط عليها من حيث لا تحتسب. لقد كان اختيار خالد الفالح فكرة عبقرية، وتفكيراً خارج الصندوق فلم يكن أحد يتصور أن يأتي رئيس «أرامكو» إلى الصحة، لأن التفكير في مثله كان مستبعداً وأقرب إلى الخيال. ولم يكن أحد يظن أن الرجل حسن السمعة يقبل بأن يعرّض تاريخه المهني للتشويه إن فشل في «الصحة»، لكن الظاهر أنه جاء متسلحاً بالتحدي، وأنه يملك مفتاحها السري مدعوماً بكل الإمكانات التي نالها زملاؤه قبله، إلا أنها لم تنقذهم من المصير المحتوم. قياساً الى تجربة الفالح في «أرامكو»، فإنه سيكون مختلفاً ولن يسمح لها بأن تفرش ظلها القاتم عليه، بل سيحررها من كل مخالبها، ويعيد هيكلتها، وربما يدفع بها إلى التأمين في شكل محسوب وذكي، ربما يعيد تأسيسها في شكل مختلف، وهو الذي كان مسؤولاً عن تطوير الأعمال الجديدة في «أرامكو»، ولا شك في أنه سيستعين بكوادر من شركته الأصل، حرصاً على الفهم المشترك والتناغم في العمل. جاء الفالح وقد أخليت له الساحة من نائبيه ليختار فريقه كاملاً، فلا يكون أسير التقاليد السابقة والعادات المزمنة. كم يحتاج الفالح من الوقت؟ الكثير، لكن الأمور ببداياتها وملامحها الأولى، وحالما يكشف لثامه ويظهر نفسه سيتضح بدرجة كبيرة خطه ومساره. كانت «أرامكو» سارية الإنقاذ في كثير من المشاريع، واليوم يأتي رئيسها ليمسك بتلابيب الصحة، فلننتظر عمَّ ستسفر الجولة الأولى من الصراع.
مشاركة :