عندما أتأمل بعض الفتيات والمراهقات وقد حاولن اجتثاث جميع تفاصيل أنوثتهن سواء في الأردية أو الشعر أو الأسلوب وتحولن إلى كائنات غامضة الهوية في منطقة ما بين الأنوثة والذكورة كطاووس له رأس غزال أو حمامة تحولت إلى ثمرة أناناس، بعد أن أخضعن (لفوتو شوب شرير) شوه المخمل في تقاطيعهن الأنثوية.. أعرف عندها أنهن يرسلن رسالة صادمة حادة اللهجة لمحيطهن. وأجدهن قد انتبذن مكاناً قصياً يرمقن المجتمع بتحد يعلن نفوره من جميع القوانين والوصايا التي تسوقهن بشكل قطيعي مطوق بالعيب والعار.. يتمردن على ركام من الرسائل واللمح والإشارات اليومية التي تؤكد انتماءهن إلى النوع الأدنى الأقل.. النوع.. المنتقص.. بينما تبرق في أعين كل واحدة منهن كومة حكايات. فهل هذا أمر طارئ؟ أم أن الموضوع أعمق ويتجذر حيث خطاب ثقافي مستبد يدفع بالذكورة إلى الواجهة لتستأثر بالريادة والذكاء والقوة، ويترك لهن الهوامش وقدر الأشباح والظلال والظلمة. هل من هنا بالتحديد يتخلق التحدي والنفور؟ وتسن المشارط الحادة لتشويه وإخفاء معالمهن الأنثوية بهدف الالتحاق بعوالم الأسياد الأقوياء؟ وقد نستغرب أيضاً أن هذا الموضوع تبدى واضحاً حتى للمتأمل من خارج المجتمع، ففي كتاب(النساء والفضاءات العامة في السعودية) للباحثة الفرنسية أميلي لورونار تحدثت عن هذه الظاهرة كسمة ملازمة لمجتمعنا وهو ماتعارفنا عليه بظاهرة (البويات)! في المراهقة تبرز أزمة هوية حادة لدى الكثير، وهو التوقيت نفسه الذي تختار فيه (البويات) وأد أنوثتهن، فهل بهدف لفت الانتباه يذهبن في هذا الموضوع إلى مسافات عميقة؟ رغم مافيه من خدش للنسيج الاجتماعي المتحفظ لمحيطهن؟ وهو العمر أيضاً الذي يوارب الباب لإخوتهن الذكور للخروج وفرد الأجنحة، والاستقلال بمركبة خاصة، والقيام ببعض مسؤوليات الأب من وصاية على النساء، أو استخراج أوراق رسمية، أو أي من المهام التي لا يقوم بها سوى الرجال في الفضاء العام. هذه المرحلة الحساسة التي يدفع المجتمع فيها الفتى إلى الواجهة بتكاليف مطالع الرجولة، هي نفس المرحلة التي يسحبهن المجتمع فيها إلى الخلف في الغرفات الخلفية.. عندها لاتملك أن تقاوم هذا سوى بإشهار تلك المطارق والمشارط الحادة التي تجتث فيها أنوثتها التي قادتها لأن تصبح أسيرة المحبسين، حبس مكاني والحبس.. بتهمة النوع. أعتقد أن هؤلاء الفتيات يملكن حساسية وشفافية مرتفعة تجعلهن يقاومن هذا الطوق بإصرار غريق يرسب في اللجج النسائية، حيث المقاعد المتقهقرة، والحقوق المقصاة.. وثنائية المهد- اللحد التي تجلد صويحبات يوسف أو من ستضيق بهن جهنم. المفارقة أن على المستوى التربوي مازالت تعالج هذه القضايا وفق مبدأ إنكار وجودها وعدم الاعتراف بها..؟ مع أنها في جوهرها رسائل حادة للمجتمع بهدف لفت الانتباه، قد يحسم الموضوع أحياناً في المدارس بالتوبيخ وكتابة التعهد ومن ثم استدعاء ولية الأمر.. وكلها حبال تزيد من التنكيل. أعتقد أن جزءاً كبيراً من الحل يكمن في الاستماع.. والاحتفاء.. والإلهاء. الاستماع.. العميق المستغرق لهمومهن وتطلعاتهن. الاحتفاء.. بالنموذج الأنثوى كوجود كوني يرمز إلى الخلق، والديمومة المتكاثرة، هبة الأرض، وسر الشجر والمطر، الاحتفاء بروح الأنوثة - الطبيعة، وحيث أيدي الأمهات الماهرة وطاقات الحب والشفاء - الأصابع لتي تقطر بعصارة الخبرة والدفء والحنان - الحرف وترانيم المهد -.. وقصص الجدات - الاحتفاء بالأنثى كرمز حاضر ناجح فاعل مشارك في المسيرة الإنسانية. وأخيرا.. الإلهاء (أبجدية علم النفس).. عبر التسامي نحو أهداف عليا.. الانشغال بحلم باذخ.. تطوير الذات.. الأنشطة الفكرية.. الأدبية.. الرياضية.. وجميع مايوقد قناديل صغيرة في درب حيرتهن.. نحن نعلم بأن مدارسنا ومدننا شبه مجدبة تقريباً من النشاطات الأدبية والفنية والرياضية الخاصة بالنساء.. ولكن تفعيلها واستحداثها بات ضرورة حتمية. تربوياً لم نسمع إطلاقاً أن جهة تعليمية استبدلت التوبيخ الوعظي وكتابة التعهدات بمحاضرة لامرأة متميزة وناجحة.. تتحدث أمام الطالبات في المدارس.. كم سيكون هذا ملهماً لهن. الفتيات اللواتي مارسن عملية فوتو شوب شرسة ضد هويتهن الأنثوية.. أعتقد أن جل مايحتجن إليه.. هو التوقف والانصات لهن.
مشاركة :