عملية صناعة التاريخ لها وجهان مختلفان، وجه سلبي يحفل بالحروب والمآسي والدمار والتناحر والکراهية والأحقاد بين الشعوب والأمم والأديان، ووجه إيجابي يحفظ بين طياته البناء والإعمار والتواصل بين الشعوب والأديان والحضارات والتسامح والتعايش السلمي. ولابد من الإقرار بأنه ولأسباب متباينة فقد کانت فترات الحروب والدمار والأحقاد والکراهية تُشکل أکثرية الحقب التاريخية الماضية. وبقدر ما کان خوض الحروب يحتاج إلى الشجاعة والحزم والاقتدار، فإن التأسيس للسلام والأمن والتسامح والتعايش والتواصل بين الشعوب والأديان أيضا کان بحاجة إلى شجاعة وحزم واقتدار أکبر وأعمق من الذي يحتاجه المرء لخوض الحروب. والتاريخ يذکر بأحرف من نور أولئك الذين جعلوا جل همهم البناء والإعمار والتأسيس للتواصل والتعايش والتآلف والمحبة بين الشعوب، ولا غرو من أن البشرية تذکر بإجلال هذا الصنف وتشيد به، لأنه أسس لتراث وإرث، الإنسانية بأمس الحاجة إليه، وإننا إذ نعاصر العقد الثاني من القرن ال21، فإنه لامناص من الاعتراف بأن الإنسانية بحاجة إلى المزيد من الشجعان الذين يؤسسون للتواصل والتعايش السلمي بين الشعوب والأديان والحضارات ويعملون على جعلها أمرا واقعا يقطع الطريق على ما يضدها. من المهم جدا أن نعرف بأن صناعة التاريخ ترتبط بما يحمله القادة من أفکار وقيم ومبادئ إنسانية تؤسس للتسامح والتقارب بين الشعوب والأديان وتسعى أيضا من نبذ أو إقصاء أو تهميش کل الأفکار والأمور التي تدعو إلى الکراهية والأحقاد والبغضاء والانعزال ونبذ ورفض الآخر، وإن رجلاً کالمغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، نموذج سيخلده التاريخ ويذکره بکل خير لما أسس في دولة الإمارات العربية المتحدة من مسار إنساني نبيلٍ وسامٍ يرتكز على التسامح والتآزر والتقارب والتعايش بين الأديان ويقوم على نبذ الکراهية والأحقاد، مع وجوب الإشارة إلى ملاحظة مهمة بهذا الصدد وهو أن الراحل الکبير لم يعلم شعبه الکريم فقط وإنما الإنسانية جمعاء بأن الأصل في التاريخ الإنساني هو التسامح والتقارب والمحبة والتواصل والتعايش السلمي بين الأديان والشعوب. وما ُيثلج الصدر أن صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، وولي عهده الأمين، صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، يسيران على النهج والطريق الذي اختطه والدهما، وأيضاً يعملان ما بوسعهما من أجل إغناء وإثراء هذا النهج وجعل دولة الإمارات منارةً للتلاقي والتسامح والتعايش السلمي بين الأديان. وما شهده هذا العام 2019، من عمل وجهد بهذا المسار، أکد ذلك بکل وضوح. الإمارات جعلت العام 2019، عاماً للتسامح، وعقدت خلاله مؤتمراً عالمياً کبيراً للتسامح، شارك فيه علماء دين کبار ومفکرون من الأديان السماوية الثلاثة، ومن مختلف أرجاء العالم وتم التوقيع في أبوظبي على ميثاق الأخوة الإنسانية بمشاركة وحضور بابا الكنيسة الكاثوليكية. وهذه التطورات النوعية کانت بمثابة رسالات عملية وواقعية تبعث بها دولة الإمارات لبلدان العالم وللضمير الإنساني، مؤكدة أنها تعني فعلا ماهي بصدده، وتؤسس حقاً لعصر تواصل الأديان وتوحيد الرسالات السماوية باتجاه التقارب الذي ينهي کل عهود الانعزال والاختلاف والمواجهة إلى غير رجعة. مجمع الأديان الذي يطلق عليه «بيت العائلة الإبراهيمية» في أبوظبي سيقام فيه معبد يهودي ومسجد إسلامي وكنيسة مسيحية، يأتي هو الآخر کجهد عملي يثبت للعالم بأن الإمارات قد عملت ما بوسعها على تعزيز قيم التسامح والسلم لجعل التقارب بين الأديان أمراً واقعاً إلى الدرجة التي سوف يکون من الصعب على کل من قد يحمل أفکاراً انعزالية أن يؤسس لنزعات تُناقض هذا الاتجاه الذي هو أصل وأساس الإنسانية والمقصد الأساسي الذي عناه الله تعالى في الأديان الإبراهيمية. ما جاء في الأديان الإبراهيمية من نصوص تؤکد على وحدانية الله تعالى وتعترف بربوبيته، تثبت بأن أصلها واحد ومن مصدر واحد، إذ لو طالعنا بعض النصوص من (العهد القديم)، نجد إثباتا لذلك، إذ جاء في التوراة: «اسمع يا إسرائيل الرب إلهنا رب واحد»(التثنية 6. 4). أما في الإنجيل فقد جاءت أيضا نصوص بنفس المعنى ومنها على سبيل المثال: «من لا يخافك يا رب ويمجد اسمك لأنك وحدك قدوس لأن جميع الأمم سيأتون ويسجدون أمامك لأن أحكامك قد أظهرت»(الرؤيا 15: 4). أما في الإسلام فإنه وعلى سبيل المثال أيضا:«يا أيها النَّاسُ ?تَّقُوا ربّكم الذي خَلَقَكُم مِّن نَّفْس واحدَةٍ «وفي آية أخرى:» قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا». آل عمران (64) «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى والصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ»البقرة:(62). من هنا فإن الدعوة للتسامح والتواصل والتقارب بين الأديان التي انطلقت من دولة الإمارات، فإنها لم تنطلق من فراغ وإنما من الأساس الذي انطلقت منه الأديان السماوية الثلاثة وأجمعت عليه ولا ريب من أن هذه البداية الجديدة القويمة ستکون لها استمرارية حميدة بإذن الله من جانب القيادة الرشيدة لدولة الإمارات وعلماء الدين الأکارم فيها وأقرانهم من الذين سيجعلون من هذا المسار نبعاً رقراقاً للإنسانية جمعاء.
مشاركة :