الأدب الإيراني .. بين لعنة الأيديولوجيا وديكتاتورية السلطة

  • 9/26/2019
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

عادة ما تهتدي الأنظمة الشمولية في دفاعها عن نفسها إلى حيلة إفراغ مفهوم الحرية من محتواه، وتقزيمه بإسناد أوصاف له، من قبيل الحديث عن "الحرية السياسية" و"الحرية الاقتصادية".. وما إلى ذلك من النعوت، التي يتداخل بعضها مع بعض، حتى تفقد الحرية أي دلالة لها في هذه الدول، فهي تختزل في نهاية المطاف في عناصر محدودة، حيث نجد في الحريات السياسية مثلا إقرار تعددية حزبية وتنظيم انتخابات وتشكيل مؤسسات تمثيلية... إلخ، من الأمور التي تخضع في جوهرها للمراقبة والضبط، لكنها تسعف النظام كي يبعد عن نفسه شبهة الديكتاتورية. هذا واقع حال الحرية الأدبية في إيران، فالعناوين المضافة إلى قائمة "جديد الإصدارات الأدبية" في تزايد مستمر، لكنها لا تخرج عن النطاق الذي فرضه مقص الرقيب كمجال للإبداع والكتابة، بذلك تبقى الأعمال الرائجة في الساحة الأدبية - بشهادة أهل البلد - مقيدة بخطوط حمراء لا ينبغي للمبدع تخطيها، حتى يضمن لمؤلفه التداول في الأسواق والانتشار بين القراء من ناحية، ويضمن لنفسه ولأهله السلامة من أي إجراء أو ملاحقة قانونية من ناحية أخرى. يقسم أمير حسين الروائي الإيراني جهل المنتوج الأدبي داخل البلد إلى صنفين، هما أدب ميت يفتقد إلى الحياة؛ فقد جعله الخوف والخشية من الوقوع في المحظور، جافا وعاجزا عن إيصال ما يحمله من رسائل وأفكار، وحتى تلك التي تجرأ أصحابها فزرعوا فيها نفس الحياة تولت الرقابة نزعه منها. وأدب أيديولوجي يتبنى أهداف الدولة، ويروج لمشاريعها، ويدافع عن مخططاتها، وتحظى هذه الأعمال وأصحابها بالإشادة والتنويه والمساندة والتشجيع، فهي بمنزلة سلاح فكري، يمكن توظيفه في المشروع القومي الطائفي والمذهبي، الذي يروج له "النظام". لقي الأدباء والشعراء ممن تجرأوا على الإبداع خارج هذين الصنفين، صنوفا من المحن والاضطهاد والتنكيل والملاحقة التي أفضت إلى التصفية الجسدية في بعض الأحيان؛ فمنهم من اعتُقل، وحوكم، ومنهم من اختُطف، وتولت أجهزة خاصة تعذيبه، ومنهم من قُتل، ونُسبت وقائعهم إلى المجهول، ومنهم من انتحر، بعدما ضاق ذرعا بهذه الأوضاع، ودبّرت مؤامرة فاشلة لقلب حافلة كانت تقل 21 كاتبا إيرانيا، كانوا في طريقهم لحضور فعالية ثقافية في دولة مجاورة. يتسع نطاق الحظر والتضييق يوما بعد آخر، فقد منعت السلطات الإيرانية للعام الثالث على التوالي مراسيم إحياء الذكرى الـ19 لوفاة أحمد شاملو الأديب والشاعر الكبير "1925 - 2000"، المعروف بمواقفه المناهضة للنظام الإيراني؛ بعد سيطرة رجال الدين على سدة الحكم، لم يستطع هؤلاء اعتقال شاعر الحرية بسبب قاعدته الشعبية، لكنهم نجحوا في منع مؤلفاته التي تجاوزت الـ70 كتابا لعدة أعوام، كما نجحوا في محاصرته وهو ميت، بعدما فشلوا في ذلك وهو على قيد الحياة. اعتقلت الشاعرة فاطمة اختصاري لمدة عامين، في فترة الرئيس أحمدي نجاد، قبل الإفراج عنها بكفالة، لكن ذلك لم ينجها من مسطرة الرقيب، حيث منع ديوانها الشعري "حديث نسوي قبل طبخ البطاطس" من النشر، كما صودرت مجموعتها الشعرية الموسومة بعنوان "مختارات شعرية سعيدة مصحوبة بصور تذكارية"، فقط لأن شاهين نجفي المغني الإيراني المقيم في ألمانيا قام بتلحين وأداء بعض هذه الأشعار وغنائها. تطرقت بعض الأعمال الروائية لمشكلة غياب الحرية في الداخل الإيراني، ومعاناة شرائح واسعة في المجتمع الرقابة المسلطة على كل مناحي الحياة داخل البلد؛ فزبانية المرشد لا تتسامح مع كل من سولت له نفسه الخروج عن الإطار المرسوم، وخير مثال على ذلك مصير نسرين ستودة الحقوقية والمحامية؛ المدافعة عن حقوق النساء المعتقلات، التي وجهت إليها تهم عديدة، منها التحريض على الفجور والتجسس، فحكم عليها بالسجن 33 عاما و148 جلدة. يتربع على عرش هذه الأعمال كتاب "قراءة لوليتا في طهران" لآزار نفيسي الكاتبة المعارضة، التي غادرت طهران نحو أمريكا، بعدما أيقنت أن فرص البقاء في بلدها باتت شبه معدومة؛ فالعيش في إيران بات يعني في نظرها "الإمحاء" و"اللاوجود" أو الاختفاء، فهو يلغي كيانها ويجعلها مجرد امرأة لا وجه لها ولا هوية. يصعب تصنيف الكتاب الذي جمع بين الرواية والسيرة والمذكرات والقصص، فعلى امتداد 400 صفحة تقدم الكاتبة صورة موسعة عن إيران في الفترة ما بين 1978 حتى 1981، بسرد تفاصيل الحياة في طهران، من معاناة قصد الحصول على النزر اليسير من الحرية، وصراعها المستمر مع السلطة، ما أدى إلى منعها من تدريس الأدب الإنجليزي، فهو في أعين السلطة أدب مخل بالحياء، يشجع الطلاب على الرذيلة. تحكي نفيسي عن تجربتها بعدما أقدمت - كتحد منها لهذه الرقابة - على إنشاء ناد سري للقراءة في منزلها، برفقة عدد من طالباتها، وقد وصفت الغرفة التي تحتضن النادي بأنها المكان الوحيد الذي تمكنت داخله من الشعور بالحرية، وقدرتها على قراءة ومناقشة الأعمال الأدبية الذي مُنعت من تدريسها. يتخلل هذه التجربة سرد، تقدم فيه رؤيتها لإيران ما بعد الثورة، وسوء الوضع الذي تعيشه المرأة وسط المحرمات، لتكون الرواية مذكرات ثقافية ووطنية، قبل أن تكون رواية أدبية. في جنس المذكرات، تحضر سيرة الكاتبة ناهد رشيلان "بنات إيران"، التي تفضح فصولها القمع المزدوج التي تلقاه المرأة داخل المجتمع الإيراني، فهي ضحية استبداد وقهر السلطة المسلط على المجتمع من ناحية، وضحية العقلية الذكورية المهيمنة على المرأة من ناحية أخرى، وتحكي عن ذلك من خلال قصة أختين بدأتا حياتهما بعشق الأدب، بعيدا عن رقابة الأسرة، لكن الأقدار فرقتهما بعد إرغام إحداهن على الزواج من رجل ثري، يمثل صورة العقلية الذكورية، بينما خرجت الأخرى "البطلة" لاستكمال دراساتها في أمريكا خوفا من المصير ذاته، إلا أنها عادت مكرهة بعد وفاة أختها، لتجد حكم الملالي، وتتعرف على هذا المجتمع الجديد لتواجه ماضيها ومستقبلها. من جانبه يرصد فريدون الكاتب الفرنسي من أصل إيراني، في روايته "رجم ثريا"؛ - استنادا إلى أحداث حقيقية جرت في قرية كوباي الإيرانية في بداية مرحلة توطيد الخميني لحكمه في إيران - قصة امرأة اتهمت كذبا بالرذيلة داخل قريتها الصغيرة، مسلطا الضوء على العنف الذكوري الذي انتشر في المجتمع الإيراني، وسلطة رجال الدين واسعة النفوذ، كونهم يمثلون شخص الخميني في المدن والقرى الموجودين فيها، بغض النظر عن ماضيهم، وما كانوا عليه قبل الثورة. بذلك يضع الكاتب يده على الأزمات التي تواجه المجتمع الإيراني ككل من فكرة سيطرة الملالي، واستخدام الدين ذريعة أحيانا لتنفيذ رغبات شخصية، التي نتج عنها موت امرأة في هذه الرواية. يصف أمير حسين الكاتب الإيراني جهل واقع الحرية الأدبية في إيران ومعاناة الكتّاب داخل بلده بقوله "يعيش الكتّاب الإيرانيون في مطلع القرن الـ21 حقبة سيقَّدَم فيها جلال الدين الرومي - وهو أكبر شاعر كلاسيكي في إيران، أو ربما في العالم برمته - إلى المحكمة بتهمة الفسق والفجور".

مشاركة :