بدرجة كثافة متوهجة واستثنائية مفعمة بالمشاعر نتابع الشاشة التى قدمها لنا المخرج والكاتب، عتيق رحيمى، بفيلمه (سيدة النيل)، أفغانى الأصل الذى يحمل الجنسية الفرنسية، بعد أن طلب حق اللجوء السياسى إليها فى أعقاب سيطرة (طالبان). أفلام عتيقى حتى لو غادرت أفغانستان كأرض تسكنها كقضية، التطرف العرقى والدينى والطائفى لا يتم انتزاعه من القلوب بمجرد إصدار قانون، أو إنشاء مدرسة تضم الجميع تحت سماء واحدة وسقف واحد، يجب ألا نستهين بالموروث الثقافى الذى يظل فى حالة تأهب للإعلان عن نفسه عندما تأتى اللحظة الحرجة، بعدها يبدأ الانفلات ليعبر كل الحدود، ويتجاوز كل ما هو متوقع، ما كنا نراه هادئا نكتشف أن الغليان ضاربا فى الجذور. عاشت رواندا تحت نيران الحروب العرقية بين أكبر قبيلتين (الهوتو) و(التوتستى) ودفعت مليون شهيد.الفيلم يستمد روافده من قصة للرواندية سكولاستيك موكاسونجا (نوتردام النيل)، المقصود بها السيدة العذراء مريم، أطهر نساء العالمين، ومن هنا جاء عنوان الفيلم. المدرسة تلتحق بها البنات من طبقة ثرية لإعدادهن علميا وتهيئتهن لمراكز قيادية. المدرسة الكاثوليكية تقام على ربوة عالية، تُطل على أحد منابع النيل، والسيدة العذراء- فى نسختها السمراء وليست البيضاء كما هى فى أغلب دول العالم - تحمى العذراء ببركتها شعب الكنيسة، الفيلم يتكون من أربعة مقاطع، أطلق عليها المخرج الذى شارك أيضا فى كتابة السيناريو (براءة، مقدس، تدنيس، تضحية) فى تسلسل درامى وبصرى وسمعى يمنح ظلالًا للتصعيد من من مقطع إلى آخر. تبدو للوهلة الأولى البراءة هى المسيطرة، واحترام المقدس هو العنوان، حتى نصل إلى فيضان من الدماء يبدأ بكذبة أن شبابًا من التوتستى اعتدوا على فتاتين من الهوتو وبعدها يغيب العقل وتتحول الشاشة لبركة دماء. بالفيلم معلومة لا أدرى مدى صحتها التاريخية، وهى أن قبيلة (التوستى) تنتمى جذورها إلى ملوك الفراعنة، وأنهم هاجروا للجنوب، ولهذا يتميزون بملامح الأنف المصرية أصغر ممن ينتمون للهوتو بملامحهم الإفريقية، وهو ما تحول إلى خيط درامى يستمد منه رغبة فتاة من (الهوتو) فى تغيير أنف السيدة العذراء بأخرى، لتشبه من ينتمى إلى قبيلتها.. تحطم الرمز المقدس لمكسب طائفى. المخرج يتناول الفيلم بمسحة أدبية شاعرية غنية بالصورة والكلمة، وتتعدد الروافد إلتى يتكئ عليها، حيث يمنح المتفرج إطلالة فكرية تتجاوز حدود الجغرافيا لتصل إلى العالم كله، الموقف يقفز بعيدا فى كل جوانبه العامة والخاصة عن رواندا. شاهدت الفيلمين السابقين لعتيق (أرض ورماد) و(حجر الصبر)، المرأة دائما فى أفلامه حاضرة بقوة، فهى فى جانب ما قد تشعل المعركة، ثم فى كل الأحوال تتحمل التبعات وتدفع حياتها الثمن. الصراع اللونى يطل، والسلطة الدينية الغاشمة وفى كل العهود كثيرا ما تلعب دورًا محوريًّا فى تأجيج مشاعر الغضب، ثم استغلالها بعد ذلك لتحقيق مصالحها. التاريخ بعمقه وسحره حاضر، والدراما تتحرك برشاقة بين المقدس والمدنس، وعتيق بمهارة يمسك كل التفاصيل - فلا تغيب الطبيعة ولا المقدس ولا صراع البشر عن (الكادر).مساء أمس، أُعلنت جوائز المهرجان فى أقوى دوراته، وأتصور أنه سيتردد اسم فيلم (سيدة النيل) كأحد أهم الفائزين بجائزة (نجمة الجونة)!.
مشاركة :