«الحب أعزك الله أوله هزل وآخره جد ولا يفهم إلا بالمعاناة» تلك الجملة السحرية للعلامة الأندلسي ابن حزم كافية لتجعلك تقع في أسر فلسفة ابن حزم الرومانسية، كما نرى في كتاب «طوق الحمامة في الألفة والأُلاّف لابن حزم الأندلسي: تحليل ومقارنة» للكاتبة المصرية د. سيزا قاسم، الذي أصدره أخيرًا المجلس الأعلى للثقافة». وهو كتاب رصين يتناول مخطوط ابن حزم ويفسر شخصيته وحكايات عشقه الثلاث التي جعلته يكتب عن تلك المشاعر الإنسانية بتلك الفصاحة والشغف. ويأتي نشر الكتاب بعد مضي 43 عامًا من مناقشته كرسالة ماجستير بقسم اللغة العربية بكلية الآداب، جامعة القاهرة، التي أشرف عليها د. عبد العزيز الأهواني، أستاذ علم الأندلسيات. تقول د. سيزا لـ«الشرق الأوسط»، إنها لم تفكر مطلقًا في نشر الرسالة، لكن «الفكرة ألحت عندما تلقيت رسالة من الباحث السوداني د. أحمد البدوي يستفسر فيها عن الرسالة، وطلب مني نشرها، جلست وقرأتها ووجدتها تستحق النشر، فرغم مرور 10 قرون على كتابتها فإنها تظل شامخة كأنها عمل معاصر فهي تتخلق عن معان غضة، طازجة في كل قراءة لها تتلألأ مثل الجوهرة». وتضيف: «ألحقت بها فصلا خامسا قارنت فيه «الطوق» بأعمال عن الحب في تراث الغرب، من القرن الثاني عشر إلى القرن التاسع عشر، لأنني كنت قد وضعت رسالة الطوق في إطار التراث العربي شعرًا ونثرًا، ولم أضعها في إطار التراث الغربي؛ خاصة وأن موطنها أندلس القرن الحادي عشر». تروي قاسم عن معايشتها لـ«الطوق» أنها تكشفت عن نظرة ثاقبة توصلت إلى سبق في فهم النفس البشرية أيدته معرفتنا الحديثة بعلم النفس، وأظهرت أصالة كاتب «الطوق» وقيمة رسالته التي خفيت طوال هذه القرون، فلو أن الكتاب والعلماء استكملوا ما بدأه ابن حزم في هذه الرسالة لتقدم مولد علم النفس عن موعده، كما كنا قد اكتسبنا نظرة أوسع بالمجتمعات السابقة لم تتحها لنا كل المجلدات الكبيرة التي خلفتها لنا هذه العصور». وعبر 471 صفحة و5 أبواب، استطاعت قاسم أن تفك مستغلقات نص «الطوق» وتفككه وتحلله بدقة الباحث الشغوف، وبرعت في استشفاف مركبات شخصية ابن حزم وتحليلها تحليلا حديثا، بل وذهبت أبعد من ذلك وقامت بما يطلق عليه علماء الاجتماع تحليلاً سوسيو - ثقافي حيث سلطت الضوء على صورة المجتمع آنذاك. وحاولت وضع «الطوق» في الإطار الثقافي والحضاري للتراث العربي الخاص بموضوع الحب. وقسمت المؤلفة حياة ابن حزم (384 هـ - 422 هـ) لثلاث مراحل تمثل ثلاثة أطوار من حياة الأندلس السياسية. وتسرد ما خطه المؤرخون حول الخلفية الحضارية لابن حزم. وتبرز كيف كان أهل الأندلس مزيجًا من الأجناس، مما نجم عنه ترق واضح في العلوم والآداب والفنون والصناعات. وتقف في الباب الثاني عند حياة ابن حزم الذي تصفه «حادًا، مدافعًا، مجادلاً، متوقد الذهن، فرض نفسه على الأحداث والناس من حوله، فلم يكن هملاً ولم يترك لمن حوله نسيانه أو تناسيه». أما «الباب الثالث»، فكان بمثابة تعريف دقيق للمخطوط.. وأين ومتى ولماذا كُتب، كما تتناول «الطوق» كدراسة نفسية، تغوص في أنواع المحبة ودرجاتها، و«الطوق» كوثيقة اجتماعية، مشيرة إلى المرأة والرجل في مجتمع ابن حزم، ثم تقدم قراءتها التحليلية من منظور شخصي للطوق حيث تستعرض القيم الاجتماعية والجمالية لابن حزم. وأفردت المؤلفة الفصل الرابع محاولة إبراز موقع «الطوق» بين التراث الشعري والنثري العربي، حيث برزت فيه 3 تيارات أساسية عن الحب: أدبي، وفلسفي إسلامي، وصوفي. وزيد الكتاب بالفصل الخامس الذي هو في حد ذاته يمثل مجال دراسة أكاديمية منفصلة، فقدمت المؤلفة مقارنة وافية بين «الطوق» وكتاب «رسالة في الحب» لأندرياس كابيللانوس (أحد قساوسة البلاط الفرنسي في العصور الوسطى)، وكتاب «الحب المحمود» لخوان رويز (أحد نبلاء إسبانيا في العصور الوسطى)، وكتاب «عن الحب» للروائي الفرنسي ستندال، وكتاب «الحياة الجديدة» «La Vita Nuova» لدانتي الإيطالي، فكتبت: «كان ابن حزم في الثالثة والثلاثين من عمره، وكان دانتي في الثامنة والعشرين. ذاق الاثنان تجربة حب أثرت فيهما تأثيرًا عميقًا، وتركت بصمتها على نفسيهما إلى الأبد» (ص 344). وفي الختام تبين قاسم أوجه الشبه الكبيرة بين ما كتبه ابن حزم وأحدث ما كتب عن الحب في كتاب «Love and Other Emotions» لجيزون براون، في عام 2012 لتدلل على عصريته.
مشاركة :