قلتُ له إنّ القراءة من أهمّ أدوات الكتابة، فقال لي: "كيف يعني؟!. نقرأ.. ونسرق ممّا نقرأ فنكتب؟!"، فكانت هذه المقالة!. ـ القراءة في أوّل العمر، أرض خصبة للتخيّل، ومع التقدّم في السِّن تصير أرضًا خصبةً للتّذكّر!. ـ أتوقّف عند الصفحة 54 من كتاب ماركيز "كيف تُكتب الرواية"، أطوي طرف الصفحة وآخذ نفسًا عميقًا، أراجع تخطيطاتي: كم من الوجوه مرّت؟!، ويا لهذا العدد من الصفحات كأنه سنوات العمر!. ـ في الصفحة 31: استفتاء أُجري لأطفال المدن الأوروبية الكبرى، سُئل الأطفال عن اسم الرجل الذي يوصل الرسائل إلى البيت، وعن اسم من يأتي بالحليب والجريدة والخبز، ومن يجمع القمامة، ويُصلح الأعطال الصغرى في النور والماء؟!، كانت إجابة الأطفال كلها شبه جماعيّة: البوّاب!. ـ وأتذكّر أحمد زكي، أولًا في فيلم "البيه البوّاب" ثم أحمد زكي في كامل مسيرته، من محاولة انتحاره لفقدانه دور البطولة في فيلم الكرنك، إلى صلابته وهو يدخل بكامله في فنّه!، ساخرًا من مرضه الأخير معتبرًا إيّاه مجرّد "دَوْر" في فيلم وعليه أن يلعبه!. ـ في فيلم "البيه البواب"، جازف باختيار ممثلة، سُمرتها قاحلة!، لم يُعرف عنها فيما قبل، ولا فيما بعد، شيء: مهجة عبدالرحمن!. نُصِح بغيرها لأنه أحمد زكي!. يُمكنه اختيار من يريد من حسناوات السينما، حجم الدور كبير وكل مشاهِده مع أحمد زكي مباشرة!. ابتسم في داخله. ما طفا على السطح من الابتسامة كان يقول: لكني لستُ أحمد زكي، أنا "عبدالسميع" البواب وهذه "زينب"!. ـ حكاية المُعايشة العميقة في التمثيل لا يُتقنها غير قلّة قليلة، وهي بالمناسبة مسألة لا علاقة لها بما يتبجّح به نجوم السينما اليوم بالتأكيد الدائم على أنهم يؤدون مشاهد القفز والحركات الخطرة بأنفسهم رافضين مساعدة "الدّوبلير"!. هذا تنطّع، والمسألة أبسط من ذلك بكثير، أبسط وأعمق!. ـ وفي فن التمثيل، وكلّما قلتَ: "بسيط وعميق"، حَضَرتْ فاتن حمامة!. ـ تروي الفنّانة "سميرة عبدالعزيز" هذه الحكاية، من كواليس مسلسل "ضمير أبلة حكمت": في أحد المشاهد كان يتوجّب على فاتن حمامة أن تواصل حديثها بعد أن تتناول رشفة من فنجان القهوة، التي لم تكن متوفّرة لحظة التصوير. ولحلّ المشكلة وضعوا في الفنجان كوكاكولا بدلًا من القهوة، على اعتبار أنه يحمل السواد نفسه في الكاميرا!. أوقفتْ فاتن حمامة التصوير، حاولوا إقناعها باستحالة اكتشاف الجمهور للأمر، لكنها أصرّت: "لكن رشفة القهوة يا جماعة تختلف عن رشفة الكوكاكولا"!. ـ لم تعرف السينما العربية كيف تُكتب الرواية يا ماركيز!. لم تنجح في الجمع بين أشهر شغّالة في السينما العربية "نِعْمَة" في أفواه وأرانب، وأشهر بوّاب "عبدالسميع" في البيه البوّاب!. ـ في الصفحة 32 يكتب ماركيز: لقد تمكّنت رياح الحضارة في إسبانيا من القضاء على واحد من أبرز شخصيات حياة هذه البلاد وأدبها، وأعني به الحارس الليلي!. وأتذكّر فيروز والرحابنة في فيلمهم الثالث والأخير: "بنت الحارس"!. ـ كل الأعمال السينمائية المشتركة بين مصر ولبنان "وسوريّا" كانت هشّة، مخجلة، عبيطة، وقليلة الحياء لدرجة أن ثلاثة أمتار من القماش كانت تكفي لملابس جميع الشخصيات النسائية في الفيلم الواحد!. ـ لكن فجأة، وفي لحظة إحباط، قرر يوسف شاهين معاتبة مصر بهجرة قصيرة إلى لبنان!. التقط الرحابنة هذا الكنز الغضوب، وقاموا بنقل واحدة من مسرحيّاتهم إلى السينما، فكان "بيّاع الخواتم" ليوسف شاهين أول أفلامهم!. ـ يظلّ "بيّاع الخواتم" أوضح فيلم موسيقي غنائي عربي، لكن ملامح فيروز ورزانتها وحتى البطء في حديثها، لم تكن تسمح بتكرار المجازفة مع مخرج مجنون مثل يوسف شاهين!. الفيلمان التاليان "سفر برلك" و"بيّاع الخواتم" كانا من نصيب "هنري بركات" مخرج فاتن حمامة المفضّل!. ـ هذه واحدة من فوائد القراءة كأداة من أدوات الكتابة!،.. غدًا، بإذن الله، نُكمل تقليب صفحات كتاب ماركيز، بذكريات ليست سينمائية!.
مشاركة :