نُكمل ما بدأناه بالأمس، وأعيد سببه: قلتُ له إنّ القراءة من أهمّ أدوات الكتابة، فقال لي: "كيف يعني؟!.. نقرأ.. ونسرق ممّا نقرأ فنكتب؟!"، فكانت هذه المقالة!. ـ في الصفحة 43 من كتاب "كيف تُكتب الرّواية" لماركيز، يكتب: قرأتُ في إحدى الصحف أنني ألقيت محاضرة أدبية في اليوم الفائت في مدينة بالما،..، لم يكتف المراسل الصحفي الدقيق بإيراد رواية مفصّلة للحدث، بل قدّم كذلك مُوجزًا موحيًا لمحاضرتي،..، الموضوعات المطروحة كانت أكثر ذكاءً مما يمكن أن يخطر لي،..، لم يكن فيها سوى عيب واحد وحيد: فأنا لم أكن في مدينة بالما!،..، كما أنني لم أُلق في حياتي محاضرة!. ـ وأتذكّر كيف قامت مجلّة شهيرة، أيام عزّ المجلّات الشعبية، بتغطية أمسية لشاعر "وجيه"، وأفردت لها مساحة كبيرة، ولاحقتْ تفاعل الحضور وتصفيقهم، وتفاصيل الجمهور الذي ربما عبّر عن حزنه واستيائه لامتلاء المقاعد قبل أن يحظى بمكان فقرر البقاء خارجًا تعبيرًا عن الإعجاب بالشاعر، كانت تغطية ممتازة، لم يكن فيها سوى عيب واحد وحيد: الأمسية لمُ تُقَم أصلًا، فقد تمّ تأجيلها!. ـ في الصفحة 45 يعترف ماركيز بخوفه من الطائرات: أطير دومًا وأنا خائف!. ـ وأتذكّر كيف كانت فكرة الطيران مرعبة عند الموسيقار محمد عبد الوهاب!. يا لأبواب النّجارين المُخلّعة!، ماركيز وعبد الوهاب، اللذّان علّمانا بالكلمة وبالنغمة كيف نطير، يرتعبان من مجرّد فكرة صعود الطائرة!. ـ ربما لو كان عبد الوهّاب في زمن عبّاس بن فرناس، لأهداه أطيب الألحان ولجعل منه نجم الغناء الأوّل، أو على الأقل عازف العود الأول في فرقته!، ذلك أنّ عبّاس بن فرناس كان عازفًا ويحب الغناء، وربما لو نجح في هذا الفن لانغمس فيه ولم يلتفت لفكرة الطيران!. ـ في الصفحة 49 يتحدث ماركيز عن التخاطر وأساليبه، يسترسل في عدة صفحات متناولًا بعذوبة هذا الموضوع، وكيف يمكن لأفكار شخص أن تتداخل مع أفكار شخص آخر حتى يرى كل منهما، أو أحدهما، الآخر، وكأنه معه، بينما الحقيقة أن كل واحدٍ منهما في قارّة!. ـ في الصفحة 52 يكتب: كل ما هو تكهّن،..، يأتي مُشفّرًا منذ إدراكه، ولا سبيل إلى فهمه إلا حين يكتمل. ولو لم يكن كذلك لهزم نفسه بنفسه مقدّمًا!. ـ وأتذكّر حكاية الجلاء السمعي والبصري التي غيّرتْ مجرى حياة الدكتور مصطفى محمود، والذي لم يكن له قبلها، على حد قوله، أي علاقة بالتفكير الدّيني والرّوحانيّات!. ـ يحكي مصطفى محمود أنه وفي ليلة من الليالي، بينما كان نائمًا، رنّ جرس التلفون، كان الناقد جلال العشري على الطرف الآخر، ولغلبة النعاس أغلق الدكتور مصطفى محمود السماعة، وعاد إلى النوم وراح يحلم!. ـ في الصباح، اتصل بصديقه العشري معتذرًا، وذكر له الحلم ممازَحةً: حلمت أنك وزميلنا شوقي عبد الحكيم كنتما في شارع سليمان باشا، وكان الحديث كذا وكذا وكذا!، فما كان من العشري إلا أن رمى سمّاعة التلفون من هول ما سمع، ثم عاد ليقول للدكتور مصطفى محمود: لم يكن حلمًا، هذا ما حدث بالضبط.. حرفيًّا.. تمامًا!. ـ اعتبر مصطفى محمود أن هذه رسالة، وأنّ الله سبحانه أراد أن يهيئ له من المقادير ما يؤكد له أن الإنسان يمكنه أن يرى دون عين وأن يسمع دون أُذُن، مما يعني أن هناك في الإنسان، وله، شيء آخر، أبعد وأهم، من الماديّات!.
مشاركة :