لطيفة لبصير تتناول الحدود والممكن في السيرة الذاتية الرقمية

  • 10/9/2019
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

تقول الباحثة المغربية د. لطيفة لبصير إنه من المؤكد أننا بين يدي زمن يعدو بسرعة، ولذا فإن هويتنا هي أيضا ينبغي أن تخضع لوتيرة هذا الزمن حسب تشكلاته، فالذات في عصر الأجهزة المتطورة دوما تعيش اليوم مفارقات غريبة، تجعلها بعيدة عن الأنا التي كانت تعود إلى مخزونات نفسها بنوع من السرية والكتمان؛ في القديم كانت الحياة الخاصة مسيجة، ولا ينفلت منها إلا ما هو قابل للنشر على الورق، وهذا الأخير كان من خصائصه غربلة الأسرار والتستر على المحظور الذي يظل حبيس اليوميات الخاصة، في حين نجتاز اليوم عتبة أخرى تجعلنا أمام استظهار هذه الأنا بكل الطرق، المباحة وغير المباحة؛ لقد تراجع الورق ليفسح للذات أشكالا تعبيرية أخرى تتماشى مع الجهاز نفسه الذي نكتب من خلاله، والذي يشكل وعينا الجمعي بطرق شتى ويجعلنا علنيين في جل الأوقات! ورغم أننا بدأنا نبتعد عن الأزمنة التي كان ينزوي فيها الشخص كي يتحدث عن ذاته، إلا أن الذات رغم اختلاف أشكال تجليها، تظل لصيقة بالرغبة في الحديث إلى آخر تخلقه هي نفسها وتسر له بالمكنون وكأن الأمر أشبه بالرغبة الجموح في فك العزلة عن الذات. وتضيف لبصير أثناء حديثها في ملتقى الشارقة للسرد الذي عقد بالعاصمة الأردنية عمّان خلال الفترة من 17 – 19 سبتمبر/أيلول 2019: لا شك أننا اليوم غيرنا نظام الرسائل المعتاد في حياتنا الماضية، فلا وجود لساعي البريد الذي كان يحمل إلينا الرسائل الشخصية الورقية التي كانت تقرأ أكثر من مرة بلهفة وبعناية فائقة، وكان التوصل بها والرد عليها خاضعا لزمن الإرسال والانتظار والتلقي؛ كل هذه الطرق حلت بدلها وسائل أخرى تتمثل في التلقي المباشر والرد السريع. وعليه، فنحن أمام إرسال وتلق من نوع جديد يحكمه الزمن الحاضر/ الآني فقط؛ وهو حسب تعبير فيليب لوجون زمن مرعب تحكمه آليات جديدة في الكتابة والتلقي، ذلك أنه يخضع لشروط جديدة للإنتاج والتلقي حتى بالنسبة للأشخاص العاديين، فمن مكاني حيث أنا، في البيت أو في السيارة أو في المقهى... أقرأ الأخبار المحلية والدولية على الجهاز، ويمكن أن أتلقى عبر نافذة آخرى من الجهاز نفسه عشرات الرسائل، وأجيب عليها ثم أعود إلى تتمة قراءة الأخبار أو الذهاب بكل حرية ويسر إلى مواضيع وعوالم أخرى. ووفق ذلك، يتكون لدي عالم آخر تشكل من السباحة التي أوجهها كيف أشاء حسب المقام ورغبتي، ففي القديم كانت هناك موارد بشرية، واليوم هناك غوغل، فلم يعد هناك الملاك الحارس بل آلية GPS (تقنية تحديد الموقع). وترى د. لطيفة لبصير في الجلسة التي رأسها الروائي السوري نبيل سليمان أنه وبقدر ما ظهرت العديد من الدراسات التي تعلي من شأن السرعة في تلقي الخبر وانصهار الذات مع ما يجري في العالم، فقد ظهرت هناك أيضا دراسات تنتقد هذه السرعة التي تهدد الذات و"تدعي" بأننا غارقون في الحاضر الذي يقبر الماضي متجاهلا المستقبل إذ هناك بفضل التقنية، سرعة فائقة تتجلى في التنقل الخاطف والتواصل السريع، ومعها بالتوازي، سرعة في تغيير العادات والسلوكات ترتب عنها إحساس فظيع بعدم توفر الوقت. وتوضح ان الحديث عن الذات يعد علامة حضارية، فمن بين إشكالات الحداثة هو أن الذات تقع في مأزق حقيقي حين تريد أن تفصح عن مكنونها رغم الإمكانات الكثيرة التي نجدها اليوم تدفع نحو شتى أنواع البوح، لكن السؤال الذي يظل مطروحا: هل فعلا تغيرت الذات من حيث المحتوى وهي تعبر من خلال جميع مواقع التواصل الاجتماعي عن نفسها أم أن الأمر يتعلق بالشكل فقط؟ هل نحن الآن أمام اعتراف جديد يجعلنا نستخلص تحولات الفرد في الزمن الحديث؟ ألا يمكن اعتبار هذا النوع من الاعتراف المستسهل والمشاع والعلني مجرد كتمان من نوع آخر؟ هل وجودي الدائم في جل المواقع بواسطة الصورة والصوت يجعلني إنسان العصر الحديث وكأن حياتي تمر في صور ومشاهد لا تحيل علي مباشرة وإنما تعبر عن كائن آخر يشبهني شكلا فقط ؟ وتؤكد لبصير أن الحديث عن الذات يعتبر رغبة مستترة في الإنسان، فهو على الدوام يريد أن يحكي للآخرين، ذلك أنه ينفر من العزلة حتى ولو بنى معظم ما يتلفظ به على الوهم والكذب والتخييل، وهذه صفات لا توجد فقط لدى الكائن العادي ولكن لدى المبدع أيضا. فكاتب السيرة الذاتية رغم ما تمت مراكمته من أعمال ونظريات أدبية حول الميثاق الأتوبيوغرافي الذي يصادق على تطابق المؤلف والسارد والشخصية، وجد نفسه أمام مأزق المصادقة هذا، ذلك أنه اصطدم بالكثير من الأساليب الحديثة التي هيمنت على الفرد وجعلته خاضعا لنظام آخر من الخلق والتخييل الذاتي والقلب الجمالي الذي يطال الانتماء إلى زمن هو أيضا يخضع للوهم، فلم يكن هناك من وسيلة أمام هذا الميثاق سوى الانصياع للتحولات الجديدة التي عرفتها الأعمال الإبداعية التي ينتجها الفرد إذ هي بدورها تخضع لنظام آخر، ولذا نجد العديد من المنظرين للسيرة الذاتية أمام إشكالية ما يطرح لتجديد السيرة الذاتية، وهذا ما نجده مثلا عند سيرج دوبروفسكي في التخييل الذاتي أو فليب لوجون في أطروحاته: "كيف يمكن أن نجدد في السيرة الذاتية؟" "السيرة الذاتية والوسائل الحديثة"، وهل يعبر ذلك فعلا عن رغبة في دخول عناصر أخرى تنتمي للزمن الحديث بهدف تغيير شكل الخطاب في حد ذاته. وتشير إلى أنه في خضم تطورات أشكال التعبير الحديث عبر الإنترنت وجد الفرد نفسه أمام الرغبة في الحديث عن ذاته بصوت عال، وإذا كانت اليوميات الخاصة في السابق تظل في كثير من الأحيان كشاهد على ذات انتهت إذ غالبا ما كانت تقرأ بعد انتهاء الشخص منها كاملة أو بعد موت الشخص، فإن ظهور اليوميات الخاصة الرقمية كان بمثابة مرحلة جديدة وحاسمة في تطور الكتابة عن الذات. وتبعا لذلك، أضحت لدينا أشكال أخرى في التعبير عن الذات، وهي كلها أشكال تتمظهر في العلن، ومن أهم خصائصها التفاعل المباشر مع القارئ. وما نلاحظه ونحن أمام هذه الأشكال التعبيرية الجديدة في الحديث عن الذات، أننا أمام خلق كتابة جديدة تعتمد على السرعة في الحديث عن الذات، وكذا السرعة في التفاعل معها، والأكثر من ذلك أمام نمط جديد من التواصل تتجاور فيه الحميمية مع العدوانية، ويتمثل هذا بشكل واضح من خلال أشكال التواصل الاجتماعي الأخرى مثل الفايسبوك وتويتر والإنستجرام. وتمثل هذه الأشكال التعبيرية شكلا جديدا من أشكال التعبير عن الذات يمكن اعتباره نواة لسيرة ذاتية، وإن كان الأمر يتضمن الكثير من الالتباسات التي سبق وأن طرحت حين وضعت معايير لكتابة السيرة الذاتية الورقية. لقد شرع جميع من تعلم هذه الطريقة قادرا على كتابة سيرته الخاصة، آنذاك انبرى إشكال آخر هو؛ هل يمكن تصنيف كل ما يكتب من سير ذاتية حول النجاح الشخصي أو المرض أو الرغبة في إسرار المكنون بمثابة سيرة ذاتية بكل معنى الكلمة أم أن ما اصطلح عليه بالسيرة الذاتية الأدبية هو فقط ما ينشر ويقرأ على الورق؟ وتقول في إجابتها عن السؤال السابق: لا نستطيع اليوم أن نعتبر أنفسنا وكأننا لم نلج كل هذه الأشكال الجديدة ولم نطلع على روابط كثيرة ومتنوعة، إضافة إلى أننا في تدافع وسط زحام من نوع خاص يتمثل في الحياة الخاصة\ المشتركة! فالجميع لهم تغريداتهم الخاصة عن دواخلهم يقدمون من خلالها صورة عن الذات سواء أكانت صورة حقيقية أم مزيفة، فكيف يمكن حصر كل ما يكتب الآن من يوميات ومدونات وتغريدات وصور خاصة وفيديوهات يومية وسرودات خاصة وأسرار شخصية؟ وتتساءل ثانية: ما المعايير التي سنستند عليها لتحديد الصفة النهائية لهذا المكتوب؟ وما جدوى كل ما يكتب الآن؟ وهل هو فعلا سير ذاتية متشظية ينبغي جمع شتاتها أم أنها مجرد بدايات لا مسار ولا نهاية لها؟ وتقول: لا يكاد يتفق الباحثون في السيرة الذاتية المعاصرة حول وجود سيرة ذاتية رقمية بالمعنى التقليدي الذي تتوفر فيه كل عناصرهذا الجنس باعتبار أننا الآن بعيدون كل البعد عن النظر إلى السيرة الذاتية كنثر استعادي لمراحل سابقة. يرى فيليب لوجون بأنه رغم انتشار العديد من المدونات واليوميات الخاصة الرقمية التي يتفاعل معها آلاف المعجبين والتي قد تدخل في سوق الاستهلاك ومسايرة العصر، إلا أنه من الصعوبة بمكان الحديث عن سيرة ذاتية مطولة رقمية، فالقارئ المهتم لا يستطيع قراءة عمل طويل على النت، بل سيقوم بنسخه ثم قراءته ورقيا، وهذا ما سيجعل العمل بعيدا عن التفاعل المباشر. من هنا - تقول لبصير - فإن من أهم خصائص نشر الحياة الخاصة على النت هي أن يُصاغ على شكل شذرات مرتبة أو فصول صغيرة مرقمة، لأنها في الغالب تختار خاصية الاختزال والحديث السريع والرغبة القصوى في التفاعل، وكأنها تستحث القارئ على التعليق بواسطة تقنية البينج بونج في الرد السريع أو بالأحرى على إرجاع ما تم إرساله بتثمينه وتزكيته والتعليق عليه. ولذا، فإن ظهور كل أنواع الانفعالات عبر مواقع التواصل الاجتماعي مردها إلى هذه الرغبة في الحصول على كل الأشكال التعبيرية التي تعكس التصادي سلبا أو إيجابا، فتهيمن أشكال الايموتيكون بكل خصائصها الضاحكة والباكية والمعجبة والمؤيدة، ولقد لاحظنا ضمن هذه الأشكال الانفعالية أنها لا تضع أشكالا أخرى ضد المكتوب إذ هي رغم كل تنويعاتها تعتبر في الغالب ردودا إيجابية، علما أن التعليقات المكتوبة هي أكبر شاهد على الرفض أو الغضب أو السخرية أو السب والقذف إلى غير ذلك من ردود وعلى صاحب التغريدة، والحالة هاته أن يتخلص من كل معارض له أو ساخر من رأيه الخاص بالطريقة المعلومة."الباب اللي يجي منو الريح سدو ....". تبعا لكل ما يحدث، فإننا أمام عوالم جديدة في التعبير على المستوى الشكلي، وهناك نظرة أخرى للأدب تخالف مفهوم الأدب ذاته، إنه شكل ينحو نحو السريع، ويمكن القول إن العالم العربي نفسه عرف تحولات كبيرة على مستوى مرتادي قنوات التواصل الاجتماعي، وازداد عدد الأشخاص الذين لديهم مدونات خاصة بشكل صارخ، وخاصة بالنسبة للنساء اللواتي يعتبرنه شيئا يسيرا وجديدا على مستوى التواصل الرقمي، فقد كان أغلب النساء يتحدثن عن ذواتهن بتكتم وسرية وتحفظ، في حين أنهن اليوم يتحدثن عنها علنا! وإن كان مستوى تجلي هذه الأشكال في علاقته بالأدب يظل سؤالا مطروحا هو الآخر. ثم تتعرض د. لطيفة لبصير إلى المدونة الرقمية بين الخاص والعام، وتتساءل: هل المدونة تأريخ للذات أم تخييل لها؟ وتقول: حين نعود لإشكالية بناء السيرة الذاتية وتجنيسها، نجد أنها عبرت إلى التخييل الذاتي لإعلان وجودها الجديد أمام مأزق الحديث عن الذات دون المرور عبر بلاغات أخرى، حتى وإن لم تعلن عنها مباشرة. فالذات وهي تتحدث عن عالمها الداخلي لا تستطيع أن تعبر عنه بواقعية قصوى، بل تتداخل ضمن أشكال الحديث بلاغات المشابهة التي تعتبر بلاغات جديدة للذات، فكل نتاج عني يشبهني ولكن ليس بالضرورة الأنا التي تتحدث، لذا فحين هيمنت هذه الأشكال التعبيرية الجديدة فقد حملت معها أيضا ذلك التداخل بين التخييل الذاتي والواقع، مع الاختلاف طبعا بين السيرة الذاتية الورقية والمدونة أو الموقع الشخصي إلى غيرها من أشكال التعبير عن الذات في العصر الحديث. وأضافت: مع ظهور هذه الأشكال الحديثة، وجدنا أنفسنا أمام عوالم أخرى تنظر للأدب بصورة مغايرة، فهو في حاجة لوعي فعلي ولبناء رصين لا يتأتى عبر السرعة المفرطة في الكتابة والتفاعل الذي تراهن عليه كل أشكال الكتابة الحديثة الآن. ثم تستعرض مدونة شهرزاد للكاتبة المغربية المقيمة في فرنسا حنان درقاوي، وتقول: نحن اليوم، شئنا أم أبينا، أمام العديد من صيغ التعبير عن الذات، ففي الفيسبوك نجد آلاف المواقع التي يكتب فيها الكثير من الأشخاص عن حياتهم الشخصية مثل موقع الرائعة LA SUPERBE الذي يمكن اعتباره وسيلة حديثة للبوح ومنبرا نشيطا تسرد من خلاله النساء حيواتهن الشخصية معززة بالصور وببعض الفيديوهات أحيانا، ويتلقين يوميا آلاف التعليقات والتفاعلات، والكثير منهن تروين مآسيهن الخاصة مع الرجل. وبالرغم من أن هذا الموقع يسرد حيوات شخصية، وبعيد كل البعد عن الأدب بما يقتضيه من جمال في التعبير ووضوح في الرؤية، إلا أننا كقراء مهتمين نستطيع من خلاله الاقتراب أكثر من وضعية المرأة حاليا ودراستها واقتراح حلول مناسبة، كما يمكن أن يكون بوصلة لدارس الأدب وعالم الاجتماع لأنه يقدم نظرة "واقعية إلى حد ما "على العقلية المعاصرة التي تتحكم في العلاقات الإنسانية ما تزال! وتوضح د. لطيفة لبصير أنه لا يمكن إنكار أن هناك علامات أخرى على سير ذاتية مكتوبة بشتى الوسائل الرقمية التفاعلية السريعة والتي تؤرخ للذات في علاقتها بما تعيشه اليوم من طفرات متتالية، لكن الورق حاضر في كل لحظة محققا هو الآخر دوره الرصين والفعال إذ أنه، رغم التطور المستمر في الوسائل الحديثة، فما زالت تكتب آلاف السير الذاتية الورقية كما يقر بذلك فيليب لوجون، وما زالت الرغبة في رائحة المداد على الورق تنازع الرقمي، وما زالت السيرة الذاتية في تطور مستمر لا تهمها الوسيلة بقدر ما يهمها الإبداع الحقيقي، وما زالت الأنا تتوشح بالهو رغم العديد من مظاهر عرضها للآخر! ولأن المدونات واليوميات الرقمية والتغريدات على جميع مواقع التواصل الاجتماعي تعيش معنا، فنحن لا نستطيع، ولا ينبغي لنا ذلك، أن نغض الطرف عنها وكأنها لا تمثل العصر الذي نحيا فيه إذ لا يمكن أن ننكر بأن القارئ الفاعل في العصر الحديث قد تغير هو الآخر وهو في أمس الحاجة إلى أن ننصت إلى تدويناته ونتصادى معها. وتختم بقولها: أهلا بالتطور الذي لا يدمر الإنسان، وأهلا بالإبداع الذي يمتع بغض النظر عن الوسيلة!

مشاركة :