عندما نحلل خصائص أضواء الليل في كل بلد على حدة، تتضح علاقة مثيرة للاهتمام تعكس التحول الملحوظ من مرحلة بناء رأس المال المادي إلى مرحلة تنمية رأس المال البشري الذي تشهده البلدان في مسيرتها التنموية. وتركز البلدان التي تكون في المراحل الأولى من عملية التنمية على البنية التحتية بالدرجة الأكبر، بناء الطرق والجسور، وتشييد محطات السكك الحديدية والمطارات، وتطوير شبكات الكهرباء والاتصالات اللاسلكية، وجميعها تشع الضوء ليلا. لذلك تزداد سماء الليل سطوعا في صور الأقمار الصناعية مع زيادة النمو الاقتصادي. أما في الاقتصادات المتقدمة، فتتم تقوية الاقتصاد من خلال الابتكارات العلمية والتكنولوجية، وغالبا ما يكون نمو الإنتاجية الناتج عنها أقل تأثيرا في أضواء الليل مقارنة بالبنية التحتية التي تقوم عليها هذه الابتكارات. وفي واقع الأمر تنمو أضواء الليل بنصف سرعة نمو إجمالي الناتج المحلي تقريبا في الاقتصادات المتقدمة. ماذا عن البلدان التي لا تتوافر إحصاءات مؤكدة عنها؟ ربما لا يوجد مكان على كوكب الأرض لا تتوافر عنه بيانات اقتصادية دقيقة كافية بقدر ما هو الحال في البلدان المتأثرة بالصراعات، لكن هذه الاقتصادات تعد من بين الأماكن التي نحتاج كثيرا إلى رصدها وفهمها. ومن الممكن أن تكون الهيئات الإحصائية في هذه البلدان قد توقفت عن العمل بكفاءة منذ فترة طويلة، لكن الأقمار الصناعية لا تزال تسجل النشاط الاقتصادي. واتضح أنه يمكن استخدام أضواء الليل في إعادة تقدير إجمالي الناتج المحلي في البلدان التي تعصف بها الصراعات استنادا إلى أوجه الشبه بينها وبين البلدان الأخرى التي تشهد مراحل تنمية مختلفة. وعندما نفذنا هذه الفكرة، وجدنا أن مقياس إجمالي الناتج المحلي القائم على أضواء الليل غالبا ما يشير إلى تدهور الاقتصاد أثناء الصراعات بمعدل أسرع مما تعكسه البيانات الرسمية، لكن هذا المقياس يشير أيضا إلى تعاف أكثر قوة عقب انتهاء الصراعات. ويوجد من الشواهد ما يجعلنا نعتقد أن دورات انتعاش وكساد الاقتصاد غير الرسمي لها دور في تشكيل الأوضاع في فترة ما بعد الصراعات. ولا يقتصر استخدام أضواء الليل على مؤشر اقتصادي واحد. ففي واقع الأمر، إذا نظرنا إلى كل بيكسل في صور أضواء الليل الملتقطة بالأقمار الصناعية باعتباره نقطة بيانات سنجد أن بلدا مثل الولايات المتحدة وحده يتكون من مئات الملايين من نقاط البيانات. ومع وجود أكثر من 200 بلد ومنطقة على مستوى العالم، يتكون سطح كوكب الأرض من مليار نقطة بيانات تقريبا. ويمثل ذلك قدرا هائلا من البيانات، وتم تقدير هذا العدد استنادا إلى صورة واحدة تم التقاطها في السابق بدقة محدودة للغاية. ويرتفع هذا العدد كثيرا مع صدور صور الأقمار الصناعية عالية الدقة بشكل أكثر تواترا، وهو أمر ممكن في الوقت الحالي بفضل التكنولوجيا. ومع وجود مئات الصور التي تم التقاطها بالفعل في الماضي وصدور مزيد منها مستقبلا، فإن أقل ما يمكن قوله هو أن هناك طفرة عملاقة في حجم المعلومات المستمدة من هذه الصور. ومن هذا المنطلق لم تعد أضواء الليل دلالة على الجانب المظلم للأرض بل الجانب الرقمي منها. تقترن البيانات الكبيرة بظهور تكنولوجيات جديدة الاستخلاص للمعلومات واكتساب معارف جديدة عن هذا العالم. ومن السهل أن نتخيل أن التطور الذي طرأ على علوم البيانات، مثل تعلم الآلة، يمكن الاستفادة منه في تحليل الأنماط ودعم صنع القرارات باستخدام هذه البيانات، وعديد من الشركات، مثل "دي جي تال جلوب وأوربيتال إنسايت" تقوم بذلك بالفعل. ومع تقدم علوم البيانات، يمكن الاستفادة من هذه البيانات التفصيلية في دراسة الآثار المحلية وانتقال التداعيات عبر المناطق والأنشطة الاقتصادية في أقصى بقاع الأرض التي لا يمكن الحصول على معلومات موثوقة بشأنها إلا من الفضاء على بعد مئات الأميال. ولا يتعلق الأمر بأضواء الليل فحسب. فالعدد غير المتناهي من نقاط البيانات يحمل في طياته قصصا بدأنا للتو في روايتها. ومن خلال بيانات الأقمار الصناعية والبيانات الجغرافية والبيانات النصية وغيرها من مصادر المعلومات الجديدة غير المتناهية، سنتمكن من رؤية الأمور من منظور جديد والتفكير في الاقتصاد بطرق جديدة. والأرض عبارة عن كوكب عالق في شعاع من الشمس وهي مكان هش في الظلام الكوني الواسع. لكن بالنسبة لحضارتنا كان من الممكن أن يظل الجانب المظلم من الأرض مظلما كما كان لمليارات الأعوام، وبينما أنارت أضواء الليل كوكب الأرض لأكثر من قرن من الزمان، بدأنا للتو الاستنارة بها في فهم هذا الكوكب. ومع دخولنا إلى عصر البيانات الكبيرة يظهر كثير وكثير من الفرص. ويجب أن نستغل هذه اللحظة في تحقيق التقدم المنشود من خلال الاستفادة من قوة البيانات الكبيرة في فهم الاقتصاد بشكل أعمق ووضع سياسات أكثر ذكاء وجعل هذا العالم مكانا أفضل وأكثر سطوعا.
مشاركة :