على مدار القرن الأخير من عصر الجمهورية الرومانية، قامت أجيال متعاقبة من القادة بتحطيم المعايير التي كان ينظر إليها في السابق على أنها لا تمس. وأصبح العنف السياسي أمرا معتادا، وتم تسليح مؤسسات الدولة لقمع المعارضين، وزاد غضب عامة الشعب. واقترح القادة اللجوء إلى القوة لاستعادة النظام. وكان الدافع وراء جميع هذه الأحداث هو تفاقم عدم المساواة والفساد. وعقب انهيار الجمهورية، شهدت روما انتعاشا ملحوظا ــ على الرغم من أن تحقيق السلام كان في جزء منه على حساب قمع المؤسسات الديمقراطية. ووفقا لإدوارد جيبون، المؤرخ الكبير لفترة سقوط روما، فإن أزهي عصور الإمبراطورية في القرن الثاني الميلادي كان الفترة "الأكثر سعادة ورخاء في تاريخ الجنس البشري". غير أن ما لم يعلمه جيبون هو أن ذلك الحظ الجيد كان في معظمه نتاجا للأحوال المناخية الملائمة. وكما أشار كايل هاربر في كتابه الجديد الشهير بعنوان Rome: Climate, Disease, and the End of an Empire The Fate of، فإن الفترة الفاصلة بين عام 200 قبل الميلاد وعام 150 بعد الميلاد تعرف حاليا بفترة المناخ الأمثل في روما ــ مناخ دافئ رطب غير متقلب ومناسب تماما للمحاصيل الزراعية الأساسية التي تنتجها الإمبراطورية. ولكن بحلول القرن الثالث، أصبح المناخ أكثر برودة وجفافا وتقلبا مع تكرار موجات الجفاف وتلف المحاصيل. وشهد منتصف القرن الخامس "العصر الجليدي الصغير القديم المتأخر". وأثر تغير المناخ بالسلب في قدرة الإمبراطورية على مواجهة عديد من الصدمات، بما في ذلك الأوبئة. فقد ظهر مرض الجدري في القرن الثاني، وشهد القرن الثالث تفشي مرض شرس ربما كان الإيبولا. وفي منتصف القرن السادس، قتل طاعون جستنيان نحو نصف شعب الإمبراطورية ــ وهي المرة الأولى الموثقة لظهور الطاعون الدبلي. وتشير الشواهد الأخيرة إلى دور تغير المناخ. فالعقد الذي سبق انتشار الطاعون شهد أقل درجات الحرارة في أوروبا خلال 2000 عام، التي نتجت عن سلسلة من الثورات البركانية المدمرة. وقد أدى ذلك على الأرجح إلى خروج اليرابيع والفئران الجبلية من موطنها الطبيعي في وسط آسيا، وانتقلت العدوى من البراغيث الحاملة للبكتيريا على أجساد هذه الحيوانات إلى الفئران السوداء التي انتشرت انتشارا كبيرا في جميع أرجاء شبكة التجارة الرومانية الواسعة. ومن المؤكد أن سقوط روما نتج عن عديد من الأسباب، بل إنه يظل الحدث الذي اجتمع فيه أكبر عدد من الأسباب في التاريخ البشري. ولكن يبدو أن التأثير السلبي للعالم الطبيعي في العالم البشري كان أحد أهم هذه الأسباب، وهو ما يؤكده حاليا عدد متزايد من الشواهد. وأدت قوى الطبيعة العدوانية تلك إلى إضعاف الإمبراطورية التي بدأت في التفكك في القرن الثالث. وشهدت هذه الفترة حالة مستمرة من عدم الاستقرار السياسي، وضغوطا على الحدود، وأزمة مالية اشتدت وطأتها بسبب تراجع قيمة العملة. وعقب انتعاشة اقتصادية قوية في القرن الرابع، تدخلت البيئة الطبيعية مجددا ــ حيث أدت موجة جفاف حادة في أوراسيا إلى هجرة أفراد قبائل الهون الذين أطلق عليهم هاربر وصف "لاجئي المناخ المهاجرين على ظهور أحصنتهم" ونتج عن ذلك ما يشبه تأثير الدومينو، حيث هاجرت أعداد كبيرة عبر الحدود الرومانية، ما أدى في نهاية المطاف إلى انهيار الإمبراطورية الغربية في القرن الخامس. وأعقب ذلك في القرن السادس ثلاثي مرير جمع بين تلف المحاصيل نتيجة تغير المناخ، وكارثة الطاعون، والحرب المدمرة. وتراجع عدد سكان روما في هذه الفترة ليصل إلى نحو 20 ألف شخص. وقد سقط كل من الجمهورية الرومانية والإمبراطورية الرومانية بسبب فشل كلتيهما في اختبار التنمية المستدامة. وثمة عظات وعبر مستمدة من أسباب هذا الفشل يمكن الاستفادة منها في الوقت الحالي ــ تحطيم المعايير الاجتماعية الراسخة، والاستقطاب السياسي القوي الناتج عن عدم المساواة الاقتصادية، وعدم حرص النخب على المصلحة العامة، والدمار البيئي الذي أدى إلى مجموعة من الأمراض والكوارث. وينبغي أن نعي تماما هذا الدرس، ولا سيما ونحن نرى أوجه تشابه مخيفة ومقلقة بين الحاضر والتاريخ. ويشير ذلك إلى ضرورة تحقيق أهداف التنمية المستدامة، تلك الدعوة العالمية إلى إنهاء الفقر وحماية الكوكب وضمان السلام وتقاسم الرخاء. فالتجربة الرومانية تشكل نافذة نطل منها على مستقبلنا الممكن حال فشلنا في التصرف. ولا شك أن هناك بعض الاختلافات المهمة بين اقتصادنا واقتصاد روما القديمة. فاقتصادنا أوسع ثراء وأفضل صحة وأشد صلابة وأكثر شمولا للجميع. فالرومان لم يكن بمقدورهم القضاء على جميع أشكال العوز المادي، ولكنهم كانوا يستطيعون، بل كان يجدر بهم، بذل جهد أكبر في مواجهة أشكال عدم المساواة الناجمة عن تجربتهم مع العولمة. أما نحن فبمقدورنا القيام بالأمرين. ونستطيع كذلك حل مشكلة تغير المناخ التي تمثل أكبر التحديات التي تواجه جيلنا. وكان الرومان تحت رحمة الطبيعة، فأنشطتهم لم تكن هي السبب الرئيس وراء تحول المناخ، لذلك لم يكن بمقدورهم إبطاء هذا التحول أو إيقافه. ولكن بما أن النشاط البشري هو المحرك وراء تغير المناخ الذي نشهده اليوم، فبالتالي يمكن مواجهته من خال تغيير سلوكياتنا ــ أي وضع نظام للطاقة خال من الكربون خلال العقود الثلاثة المقبلة. نخلص مما سبق إلى نتيجة أساسية، وهي أن التنمية المستدامة تكتسب أهمية دائمة وأبدية ــ سواء في عام 130 قبل الميلاد، أو في عام530 ، أو عام 2030.
مشاركة :