يعرض مهرجان لندن السينمائي فيلمين من تونس لمخرجتين في أول أفلامهما الروائية الطويلة، الأول هو فيلم “أريكة في تونس” من نوع الكوميديا، والثاني فيلم “نورا تحلم” الذي ينتمي إلى الدراما الاجتماعية. للوهلة الأولى يبدو الفيلم التونسي “عرب بلوز” Arab Blues أو “أريكة في تونس” Un divan à Tunis، وهو العنوان الفرنسي الأكثر قبولا لكونه يشير إلى “أريكة” المحلل أو الطبيب النفسي. يستند الفيلم إلى ما يشبه “السيرة الذاتية” للمخرجة التونسية-الفرنسية منال لعبيدي في أول أفلامها الروائية الطويلة. فالشخصية المحورية في الفيلم هي لفتاة تونسية (سلمى) غادرت تونس مع أسرتها إلى باريس وهي في العاشرة من عمرها. ولكنها تعود إلى تونس الآن بعد الثورة التونسية التي فتحت أبواب التغيير، تريد، كمحللة نفسية، مساعدة الناس على مواجهة الضغوط والتحديات الجديدة. لكن هل تشعر سلمى أنها تونسية أم فرنسية؟ الجميع يتعاملون معها على أنها فرنسية، يحادثونها بالفرنسية رغم إصرارها أنها تعرف العربية. وهي تحاول تعميق انتمائها بالتعمق في حياة الناس والتعرف على مشاكلهم. ويصور الفيلم المفارقات المضحكة التي تواجه سلمى خلال محاولتها إقامة “عيادة” لاستقبال المرهقين نفسيا، وتقديم المساعدة لهم. وأول خصوصيات هذه “العيادة”، توفير أريكة يسترخي فوقها “المرضى”، وهو ما يسبب الدهشة والاستغراب بل والاستنكار في البداية، فما معنى أن تختلي امرأة بالرجال وتتركهم يسترخون أمامها فوق الأريكة؟ سلمى وفرويد سلمى (تقوم بالدور الممثلة الإيرانية غولشفيته فرحاني)، تضع في مدخل شقتها صورة عالم الطب النفسي سيغموند فرويد وهو يرتدي الطربوش، لكنها تجد نفسها مضطرة أن توضح لجارها، وهو شيخ عصري يعفى من العمل لأنه لا يطلق لحيته ولا يتميز بالزبيبة فوق جبهته، بأن فرويد هذا ليس مسلما كما يعتقد، بل يهوديا. وستجلب لها هذه الصورة أيضا بعض المتاعب. الفكرة جيدة، وهناك الكثير من المواقف المرسومة جيدا في الفيلم، فيها الكثير من الطرافة، مع تعليق اجتماعي نقدي مستتر من خلال كوميديا عبثية تصل كثيرا إلى الهزل أي “الفارص” farce. هناك، مثلا، الخباز رؤوف الذي يروي لها كيف أنه يحلم دائما بالدكتاتوريين من أمثال صدام حسين وبوتين وغيرهما، ويجد نفسه يقبّلهم في أحلامه، ولكنه يبدي اشمئزازه ونفوره من فكرة تقبيل جورج بوش. هل يعاني من ميول جنسية مثلية؟ لا نعرف لكننا نراه بعد ذلك داخل حمام النساء وهو يرتدي الملابس الداخلية للنساء بعد أن صبغ وجهه بالمساحيق والألوان، يقاوم الشرطي الذي يحاول إخراجه ويقول له ويكرر إنه امرأة. وفي مشهد آخر يرتمي فوق ساقيْ سلمى داخل سيارتها ويتضرع إليها أن تعطيه رقم هاتفها حتى يمكنه الاتصال بها لكي يتحدث إليها عن مشاكله النفسية التي تفاجئه في الليل. ستقع سلمى في يد ضابط شرطة شاب (يقوم بالدور، ماجد مستورة) يطالبها بالخضوع لاختبار تعاطي الخمر. لكنه يريدها أن تنفخ في وجهه مباشرة بدعوى أن الشرطة لا تملك أجهزة فحص (بسبب نقص الإمكانيات!) في مشهد يفجر الكوميديا. ولكن سرعان ما يغرق في مواقف كاريكاتورية تتسم بالمبالغة دون أن نعرف بالضبط مما يشكو الناس أو ما الذي يشغل الفتيات والنساء ولماذا يرغبون جميعا في مغادرة تونس؟ تلجأ سلمى إلى جدها العجوز المريض تطلب مساعدته في الحصول على خطاب تزكية ضمن الأوراق الخاصة المطلوبة للحصول على ترخيص بفتح العيادة بعد أن يرغمها الشرطي على وقف نشاطها، فيريد الرجل الاتصال بصديقه الرئيس زين العابدين بن علي الذي يعلق صوره على جدران منزله، أي أنه لا يعرف أن بن علي أقصي عن السلطة. عمّ سلمى “مراد” يسرّ لها بأزمته النفسية التي يعاني منها منذ الثورة التونسية في 2011، وكيف أنه أدمن على "الشراب” عندما لم يعد يشعر بالأمان، ويرغب في مغادرة تونس. أما ابنته “ألفه”، التي تغطي شعرها بالحجاب لتخفي أثر صبغة شعر رديئة شوهته، فهي تقبل الزواج من شاب مثلي الجنس طالما أنه سيأخذها معه إلى باريس أو لندن. ضابط الشرطة يبدو كما لو كان الوحيد الذي يعمل في تونس، كما تقول له سلمى في أحد المشاهد، فهو يظهر لها في كل وقت وكل مكان، ورغم إعجابه بها ورغبته في إقامة علاقة معها إلا أنه يتشدد في ضرورة حصولها على ترخيص بالعمل مع زبائنها في الشقة التي استأجرتها فوق سطح إحدى البنايات. ولكن سلمى تواجه الكثير من العقبات البيروقراطية خاصة وأن الموظفة المسؤولة لا تهتم بمتابعة طلبها بقدر ما يهمها أن تبيع لها بعض الملابس الداخلية المستوردة. كل شيء في تونس يبدو فاسدا ومختلا وعبثيا، يدفع سلمى دفعا إلى المغادرة لكي تعود من حيث أتت، لكنها على العكس من الآخرين، تقاوم وتحلم بالتغلب على العقبات. الفيلم ناطق في معظمه بالفرنسية مع قليل من العربية. وليس هناك ما يوحي بوجود موسيقى البلوز العربية أو غير العربية. وتستخدم المخرجة المونتاج بحيث تنتقل بين شريطي الصورة والصوت انتقالات متقاطعة، يظهر الصوت قبل الصورة أحيانا، أو من خارجها أحيانا أخرى، كما يتكرر صوت سلمى وهي تردد العبارة نفسها عن نفسها، من خارج صورتها وهي صامتة. ومع الإيقاع السريع يضفي الطابع الكوميدي الهزلي على الكثير من مشاهد الفيلم خاصة ونحن نشاهد في لقطات متتابعة، صفوف الزبائن وهم يتقاطرون على العيادة التي أقامتها سلمى في شقتها المتواضعة فوق سطح البناية، ويتكرر ظهور الخباز في مشاهد يبلغ فيها الأداء قمة الهزل. وكثيرا ما تبدو الكوميديا من خارج السياق، أي مفتعلة افتعالا، كما تبدو المبالغات غير مقنعة، بل وتجعل الفيلم يكاد يسخر من الناس أنفسهم وليس من الحالة العبثية التي يعيشونها في مجتمع عشوائي مضطرب. والواضح أيضا أن المخرجة عجزت عن وضع نهاية مقنعة لتجربة سلمى، فشاءت أن تبقها على النهاية مفتوحة. إذا كان حلم سلمى يواجه كل هذه المعوقات والمشاكل والعراقيل، فماذا عن “حلم نورا” أول أعمال المخرجة التونسية البلجيكية هند بوجمعة؟ العمل الأول للمخرجة التونسية-البلجيكية هند بوجمعة، يبدو شديد التماسك والقوة والتأثير، ويمكنني القول إنه أكثر الأفلام التونسية التي شاهدتها هذا العام، توفيقا، سواء في قوة الموضوع أو صلابة السرد وتماسك السيناريو ووضوح الشخصيات وبراعة الأداء. وهو يتميز أيضا بالجرأة في معالجة موضوعه، والبعد عن المباشرة التي كان يمكن أن تقلل كثيرا من تأثيره، وتجعله تعليقا اجتماعيا ساذجا كما رأينا في أفلام أخرى من الأفلام الواقعية النقدية. هذا فيلم من قلب المجتمع التونسي، يبتعد عن “موضة” المتاجرة بموضوع الثورة وتداعياتها، كما يبتعد عن المغامرات الساذجة التي رأيناها في أكثر من عمل عن فرار الابن أو الابنة للالتحاق بتنظيم داعش الإرهابي، كما يتخلى عن تيمة الهجرة التي تسيطر على الكثير من الأفلام التونسية والمغاربية عموما. في الفيلم إشارات واضحة إلى الفساد القائم في المجتمع التونسي، الطبيب المرتشي الذي يحرر شهادة طبية كاذبة مقابل المال، والشرطي الذي يتستر على المجرم ويخفف من جريمته بعد تعاطي الرشوة. ولكن ليس هذا هو الموضوع، فالموضوع الأساسي هو المرأة التونسية من الطبقة الشعبية الفقيرة، كيف أنها رغم كل ما تحقق من تقدم في مجال حرية المرأة في تونس مازالت خاضعة للخوف، لخوفها وترددها وتقاعسها عن انتزاع حريتها بيدها، فهي تحجم عن إعلان رغباتها الحقيقية، تتستر على علاقتها بالرجل بل وتنكرها لكي لا تقضي على نفسها بالحرمان من أطفالها أو تتعرض لعنف الرجل أو تقضي خمس سنوات في السجن عقابا على إقامة علاقة خارج الزواج، يجرمها القانون، رغم أنها ترغب في الطلاق من زوجها وقد رفعت بالفعل قضية بهذا الشأن. لقد سئمت نورا معاشرة هذا اللص الذي يعيش عالة عليها، يمارس السرقة والنصب والاحتيال، لا يشعر بالمسؤولية تجاه أبنائه الثلاثة الذين أنجبهم من زوجته، ويكون مصيره السجن. ترتبط نورا برجل جاد يحبها وتبادله الحب، يريد أن يتزوجها، تسعى جاهدة إلى الانفصال عن زوجها، ولكن فجأة يغادر زوجها السجن بعفو رئاسي ويعود، يريد أن يستأنف علاقته معها. هنا لا تقدر نورا على مواجهته بحقيقة علاقتها بالآخر، ولا بحقيقة قضية الطلاق التي رفعتها.. لكنه سيعرف وسينتقم بطريقته الخاصة أبشع انتقام. وعندما يصل الأمر إلى الشرطة، تجبن الزوجة عن قول الحقيقة. هناك تصوير واقعي جيد، واختيار موفق كثيرا للأماكن التي يدور فيها التصوير داخل قاع المجتمع، وصورة صادقة ومؤثرة للقيود التي لا تزال تعيق المرأة عن التحرر. علاقات ملتبسة، وجنس “محظور” أو تكفي الإشارة إليه من تحت جلد الصورة، أي رغبات دفينة، وصراع محموم صامت بين الرغبة في التحرر من ناحية، والانغلاق والصمت والجبن والخوف من رد الفعل العنيف من جانب الرجل الذي يعتبر المرأة ملكيته الخاصة، من ناحية أخرى، فهو يرفض التخلي عنها رغم معرفته بأنها ترفضه وتنفر منه وترفض الاستجابة لمداعباته الثقيلة بعد خروجه من السجن. يتمتع الفيلم بتوازن دقيق بين شخصياته جميعها. الزوجة-الأم، الزوج-الأب-اللص المنحرف. الحبيب الذي يبذل كل جهد للاحتفاظ بحبه لكنه لا يستطيع تحمل عواقب تعقيدات الموقف. الأطفال الذين تتمايز شخصياتهم وتنمو مشاعرهم في محيط شاق، لكنهم أيضا متماسكون إلى جانب أمهم دائما وفي كل الظروف. وضابط الشرطة الفظ، ثم زميله المرتشي المتواطئ، والطبيب الذي يبدو على استعداد لتجاوز القانون طالما أنه يحصل على المال. أداء هند صبري يرتفع بالفيلم إلى مصاف الأعمال الكبيرة في السينما العربية. إننا لا نكاد نتعرف هنا على هند صبري التي نعرفها، فهي تبدو بدينة قصيرة مشعثة الشعر، تهرول في سيرها، تصمت وتعبّر بعينين يملؤهما الحزن تارة، أو الحنق والرفض والاحتجاج والغضب تارة أخرى. يبرز شعورها بالفزع ويفصح عن نفسه بعد أن تتعقد القصة ويصبح أمامها أن تختار. لكنها رغم ما تظهره من قوة كامرأة عاملة هي الأقوى عمليا في الواقع بالضرورة، إلا أنها في محيط البيت والأسرة وأمام الزوج البشع أضعف من أن تصارح، وعندما تشعر أنها يمكنها أخيرا التصريح بحبها والاحتفاظ به، تفقد حبيبها. فقد تأخرت كثيرا انتظارا لحدوث المعجزة. أداء هند صبري، المتألقة دائما، يساهم في تقديم تلك الصورة الواقعية القوية المؤثرة للشخصية الرئيسية في الفيلم، وهي تبدو مسيطرة تماما حتى على المشاهد واللقطات التي تتحرك فيها دون أن تتكلم، في الشارع والعمل، تقفز في وسيلة رخيصة من وسائل المواصلات الشعبية، أو تعبر الطريق مسرعة لكي لا تتأخر عن العمل الشاق في غسيل أغطية السرائر في أحد المستشفيات. ويدعم أداء هند صبري طاقم من الممثلين التونسيين المحترفين على أعلى مستوى؛ لطفي العبدلي، حكيم المسعودي، سيف الدين الظريف، جمال ساسي وإيمان الشريف. وهو في ظني أكثر طاقم تمثيل تونسي تجانسا وصدقا في الأداء يظهر في فيلم تونسي هذا العام. نورا تحلم، أساسا، بالحرية. لكن الحرية تُنتزع ولا تمنح. ولكن ليس بعد. حتى لو كان القانون في صف المرأة، فالقيد التاريخي القديم والخوف من الآخرين، ومن نظرة المجتمع مازالا مسيطرين. لذلك فالمرأة مسلوبة الإرادة، التي تنتمي إلى الطبقة العاملة المسحوقة، تعاني من الانسحاق ثلاث مرات؛ في العمل وفي البيت وفي المجتمع عموما.
مشاركة :