قراءة في ديوان «تهويدة لنجمة البحر» للشاعر علي عبدالله خليفة

  • 10/12/2019
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

تناولنا في الحلقة الأولى، المفصل الأول من مفاصل ديوان «تهويدة لنجمة البحر»، والذي يتناول الحس الإنساني وثقافة الحب، ونتابع في هذه الحلقة المفصل الثاني: الموت: هذا اللغز الذي وقف أمام جبروته الملغز الانسان منذ الأزل والذي بقي محيرا غامضا على مر العصور، كتب عنه الكثير وتبارت في وصفه الأقلام فلم تكن أقدم قصيدة شعرية خطها الإنسان الأول (ملحمة جلجامش) إلا صرخة مكلومة بوجه الموت المكفهر حيث عكست لنا مرايا الملحمة وجه أنكيدو وهو يكابد سكراته وسمعنا نواح جلجامش وهو يبصر عجزه عن رده ويلقي لعناته على حماقات عشتار (الوجه الاخر للحياة) وغدرها بعشاقها، وهي تراتيل نسجها المتخيل الجمعي ليواجه حقيقة ماثلة تنتهك حرمة الذات الإنسانية وتسخر من طموحاتها وتسرق ببلادة أحلامها وأحبابها لتتركها في وحشة فاتكة، عكست مرايا قصائد المجموعة الحيرة المربكة امام حقيقة الموت الملغزة ورسمت له ملامح مدهشة في سياقات متباينة حد الإرباك، لاحظ مثلاً قصيدة (ذلك الواقـف جنبي..!!) التي استبطن التدوين الطباعي للعنونة (الخرم الطباعي مع علامتي التعجب) تفاصيل تلك الحيرة وكيف نجح المتخيل الشعري في ان ينزع عن جبروت الموت هيبته حين وقف يحاكمه مستصغرا شأنه: «أنـتَ، يـا أنـتَ/‏ ويـا لـكَ مـنْ أنـتَ مـنْ بـيـن زحـام الآخـريـن /‏ أراكَ.. ولا أراكْ /‏ ربّـمـا تـبْـدو ولا تـبْـدو، ولـكـنْ /‏ أنـتَ مـابـيـنَ جـفـْـنيّ وعـيـنـي /‏ ذاكَ وقــْـعٌ لـكَ فـي الـظـّـلِّ /‏ وتـحْـتَ نـُـور الـشـمْـس وفـي الـظـلام الـمُـدْلـَهــمِّ».وتصل المواجهة بين الذات المتكورة داخل النص والموت الذروة حين تسخر من وحشيته وبشاعة طويته وقساوة طبعه، تأمل الاتي: «وأحـسّ أنـّي عـبْـرَ مَـرمـاكَ قـريـبـًا أو بَـعـيـداً /‏ حـيْـثُ تـَـرمـي /‏ نـاشِـبَ الـمِـخـْــلبِ.. مـاضٍ /‏ لا تــُـوفـّـيـْـكَ مـلايـيـنُ الـحُــتــُـوفْ /‏ لا.. ولا أنـْـتَ بــوانٍ.. أبـَــداً /‏ شــاهِــراً مُــرهَـفَ الـحَــدِّ /‏ وفـي الــغِــمْــدِ مَـلايـيـنُ الـسُّـيُـوفْ /‏ وصَـريْـحٌ، حَــازمٌ، جَــازمٌ /‏ لا تــقـْـبـَـل الـتـأجـيـْـلَ /‏ مَـهْــمـا جـازَ أنْ تــأتــي ظـُــرُوفْ».من اللافت ان تجسيم الموت وحشاً كاسراً بقرينة (ناشب المخلب) يستحضر الذاكرة الشعرية العربية وصوت أبي ذؤيب الهذلي واصفا المنية: (واذا المنية انشبت اظفارها) إلا أنه يعود فيؤنسنه مرة أخرى وليفتح معه في المشهد التالي حوارا خارجيا يكشف عن ملامحه الداخلية التي تنم عن زيف ومراوغة وعدم مصداقية، لاحظ الآتي: «أنـْــتَ آتٍ.. تــَـتـَـحَـيـنْ /‏ مَـوْعَــداً فـي الـغـيْــبِ، لا أدْريـْـهِ /‏ وتــدْري بـالـمَـواقــيـْــتِ ولا تــُـبْـديَ نـَـأْمَــةْ /‏ وتــُخـاتِــل /‏ ضَـاحِــكــًا مـنْ غــفـْـلـةٍ بـَـلـْـهَـاءَ عـنـْـديَ /‏ آتٍ كـيْــفـَـمـا شـئـتَ /‏ وَشَـاءَتْ لـي ديَـاجــيـرُ الـمَــنـايـا».ثم يعود المتخيل الشعري إلى نبرة التحدي حيث تلمح على مرايا القصيدة وجه الشاعر البرم بهذه الحقيقة الملغزة والمراوغة البليدة وحركة سبابته الموجهة صوبه عبر تكرار الضمير المنفصل (انت) والمتصل الكاف: «أنـْـتَ.. أنـْـتَ.. أيُّـهـا الـخـافـي الـمُـؤجَّــلْ /‏ أنـتَ.. آتٍ.. /‏ لـَـكَ فـي الـهَــيْـبَـةِ مَـعْــنـىً /‏ لا تـُــدانِــيْــهِ الـمَـعـانـي/‏ لـَــكَ فـي الـلـحْــظـَـةِ الـكـُـبْـرى جَـلالْ /‏ أنـْـتَ آتٍ.. ولا ريْـبَ لـديَّ /‏ لا ريْــبَ لـديْــك».ويوظف المتخيل الشعري أداة الاحتمال (ربما) ليصف بها امكنة الموت المفخخة بالغدر والمراوغة، قارن الاتي: «ربـُّـمـا أنـْـتَ هُــنـا الآنَ منْ خـلـف الـسّـيـَـاجْ /‏ رُبـَّـمـا خـَـلـْـفَ بَـابِ الـبَــيْـتِ تـَـضْـحَـكْ/‏ تـَـتــَـلـَـصّـص.. /‏ وتـُـنـادي بـِــسْــمِ غَــيْـري /‏ ثــُـمَّ تـَـمْــضي../‏ رُبّـمَـا يَـحـْـمِـلـكَ الـوَهْــمُ عـلى كــتـْـفـي وأمْــشـي/‏ تـحْـتَ ظـلٍ مـنْ نــوايــاكَ.. ولا أدْري /‏ وأمْـشي بـيَـقـيـنِ الـمُـسْـتـَـكـيـن../‏ وأنـا أمْـشـي.. وأدْري /‏ لـكَ فـي الـرُّكـْـنِ شِـبـَـاك /‏ نـاصـبـًا مـنْ خـفـايـاكَ عـلـى الـدّرب شـراكْ /‏ عـاقـداً عـزْمـي عـلـى يَــومٍ يَـمُـرْ/‏ وعـلـى يَـومٍ سـيَـمْـضي بـسـلام».ويضيء المشهد الثالث والأخير عناقيد الأسئلة التي تعيد أفق التلقي إلى الحيرة المربكة إزاء حقيقة الموت المبهمة لتستشعر في مسكوتاتها الدلالية استسلاما لجبروته وسلطته: «كـيْـفَ أنـْـتَ الـيَـومَ؟ قـُــلْ لــي /‏ كـيْـفَ تــبْـدو؟ هَــلْ تـُـراكْ /‏ صـارمَ الـوجْـهِ عَـبـُـوســًا..؟! /‏ أم تـُـرى ظـلاً شـَــفــيْــفــًا لـمَــلاكْ /‏ ولـمـاذا أنـْـتَ فـي الـبـالِ قـَـبـيْـحٌ وشـؤومٌ مُـتـعـالْ/‏ ولـمـاذا تـَـتـَـخـَـفىّ.. كـامِـنَ اللـحْـظـَـةِ مُــنـْـسـلاً/‏ كـذا تـُـنـْجـزُ مـا تــنـْـوي ولا تـبـدي شـعـوراً أو حـراكْ/‏ لا ولا يَـرْقـى لـدنـْـياكَ سـُـؤالْ/‏ كـيْـفَ لـي أنْ أدّريــك/‏ وهَـلِ الأقـْــدارُ تـُـعـْـطي /‏ كـيْ يَــطــولَ الـوَقـْـتُ ولا تــأتــي؟/‏ وهَـلْ جَـازَ أنْ فـاتـَـكَ الـمَـوعِــدُ يـَـومـًا..؟/‏ جَـازَ أنْ شـُـلـّـتْ يَــداكْ؟ /‏ كــيْـفَ أنْ أدْري عـلى أيِّ حـالٍ /‏ سَــوْفَ تـلـقـاني وفـي أيِّ مَـكـان».من الواضح ان التساؤلات المترعة بالسخرية المريرة تقود في نهاية النص الى الاستسلام الكامل لجبروت هذا اللغز المبهم الا انه استسلام لا ينم عن ضعف وانما عن تحد لناموسه حين يخاطبه متسائلا في خاتمة القصيدة: «قـُـلْ مَـتـى قـَـرّرْتَ أنْ تــأتــي /‏ لألــقــاكَ بــلا ضَـعْــفٍ ولا خـَـوْفَ هـَـلاكْ».وقد يشكل المتخيل الشعري ملامح مغايرة للموت، فلا يبدو بوجه جهم وانما يغيبه تماما تحت سلطة الحياة والفردوس الشعري، تأمل مثلا قصيدة (امرأةٌ فـي الـبَــيَـاض) التي تشف منذ عنونتها عن ملامح الموت التي تتكشف لافق التلقي شيئا فشيئا: «جـاءَني في الـمَـنام /‏ خيالُ امرأةٍ في البياضِ! /‏ تكللَ ورداً، وأسْدلَ منْ جانبيهِ غـمَام../‏ خيالُ امرأةٍ في البياضِ! /‏ كأنـّي الـتـقـيتُ بها مَـرةً في قـَـديـم الــزّحـام../‏ خـيالُ امرأةٍ في البياضْ! /‏ بانَ بـيـنَ يـديـها إنـاءٌ /‏ أشارتْ إليّ: تـعـال، /‏ خـُـذ الكأسَ، هـذا حليبٌ مُـصفـّى /‏ أتـيـتُ بـهِ منْ ضُـرُوع الغـزال /‏ وجـئـْـتُ إلـيـكَ بـخـُــبْــزٍ سَـخـيـن /‏ وتمرٍ عزيزٍ تجودُ بهِ طـيّـبـاتُ الـنـّـخـيـل».إن تلك الأنثى الملفعة بالبياض تتحرك في أفق ترميزي مخاتل لا يفك تشفيراته لأفق التوقع بسهولة، فهي قد تبدو للوهلة الأولى الرحم (حليبٌ مُـصفـّى/‏أتـيـتُ بـهِ منْ ضُـرُوع الغـزال) /‏ الأرض (التمر) /‏ الحياة (خبز سخين) /‏ المعشوقة النقية (تكللَ ورداً /‏ وأسْدلَ منْ جانبيهِ غـمَام..) ولكن تلك التوقعات تتهافت أمام التساؤلات الحائرة التي تطرحها الذات الساردة في المشهد الثاني وعبر حوارية مثقلة بالدلالات والتكثيف الشعري: «قـلتُ: مـنْ أنــتِ؟!/‏ قـالـتْ: ضَـنـيــنٌ هُـوَ الـوقـْـتُ، لا وقـتَ عـنْـدي، /‏ أنـا مـنْ تـُـرابــكَ.. مـنْ نــارِ أهْـلـكَ../‏ مـنْ سَـورةِ الـمَـدِّ ومـلـحِ الأجـاج /‏ ومـنْ نـسْـمَـةٍ حُـرّةٍ فـي الـبُـكـُـور /‏ مَـددتُ يَـدي نـحْـوَها مُـسْـتـريـبــًا».يختتم المتخيل الشعري هذا المشهد على تساؤلات تشي بتعطش أفق التلقي للاستزادة وتشوقه لمعرفة تفاصيل ذلك اللقاء المربك: «أخـبْـزٌ.. حـلـيبٌ.. وتـمْـر! /‏ لماذا أتيتِ إلـيّ بـهـذا الطـَّـعـام..؟!». يطغى صوت تلك الأنثى على فضاء المشهد التالي، تأمل كيف هيمنت حاسة الذوق بشكل لافت على نسيج الصور الشعرية: «خـذ الأكـلَ مـنـّي، وجـرّبْ طـعـامـاً /‏ قـرأتُ عليهِ.. رشَـشْـتُ عليهِ بـماءٍ تـحــدّرَ/‏ مـنْ مُـزنـةٍ لـمْ تـلـدْها الـدّهـُـور /‏ وهـذا الخُـبـزُ خـُـبْـزي /‏ عـَـجـنـتُ بـهِ أمْـنـيـاتِ الـشـراع /‏ وحُـلـْـمَ الـثـغُـور /‏ وطـيّـبـْــتـهُ بـالـذي كانَ في الـبـال دومـًا يَـدور».يضيء تكثيف حاسة الذوق ملامح الانثى التي قد تبدو قرينة (الحياة /‏ الرحم /‏ المكان) وهو تكثيف يكرسه فضاء المشهد الشعري التالي من القصيدة، تأمل الاتي: «أكـلـتُ الطعامَ الذي لمْ أذقْ مثلهُ../‏ شـربـتُ، وأسْـكـرني مـا لــديـْـها /‏ فـصرتُ ألـفُّ.. أدور».وتتابع كاميرا النص تفاصيل هذا الحدث لتستبطن احساسات الانا الساردة عبر منولوجها الضاج بالعنفوان: «وأشعـرُ أنّ الـمَـدى كـلــَّـهُ يَـقـْــتـربْ /‏ وأنّ الهواءَ تـلوّنَ لونَ الزهـُور /‏ وصرتُ كـمـنْ مَـسّـهُ الـسّـكـْـرُ /‏ وراحـتْ بـهِ نـشْـوةٌ عَـبْـرَ فـُـلـكٍ/‏ تـجـاوزَ بـحـْـرَ العـُـبُـور /‏ وأشعـُر أنـّي شـفـيـفـًا.. خـفـيـفــًا /‏ أراقـصُ ألـْـسِـنـَةَ مـنْ لـَـهَــبْ /‏ وأتـبـعُ سـربَ فــراشٍ.. أشـمُّ الـبَـراعَــمَ /‏ أحْــنـُـو».

مشاركة :