أمريكا تعيد خلط الأوراق

  • 10/16/2019
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

د. خليل حسين * إن مقاربة بسيطة لسلوك أمريكا في القضايا الخارجية التي تورّطت بها، تُثبت هروبها إلى الأمام وانسحابها لتعيد خلط أوراق أزمات إقليمية ودولية.لم يكن القرار الأمريكي بالانسحاب من سوريا مفاجئاً، فسبق وأن نفذته جزئياً العام الماضي، واستفادت منه أطراف إقليمية وازنة في الأزمة السورية، منها تركيا تحديداً عبر معركة عفرين وما نتج عنها من تداعيات ميدانية وسياسية. وتتلقف أنقرة اليوم هذا الانسحاب لتنفذ عملية عسكرية سبق أن حاولت القيام بها، لتنفيذ أجندة ميدانية سياسية تتعدى أهدافاً معلنة لتطاول ملفات ذات بُعد جيواستراتيجي في مربع الوجود الكردي في سوريا والعراق، علاوة على إيران، وبالتأكيد الجنوب الشرقي التركي، وهي الخاصرة الرخوة في الأمن القومي التركي.أخذت أنقرة قرارها بالتدخل العسكري في لحظة مفصلية محاولة لقطف ثمار معركة عسكرية ستكون نتائجها وتداعياتها مربكة لأطراف كُثر، وهي تعتقد أن هذه الأطراف ستكون مضطرة بشكل أو بآخر للتعامل مع تداعياتها وفقاً لمصالح كل منها، بصرف النظر عن التحالفات القائمة أو تقاطع أو تباين المصالح في ما بينها، وذلك انطلاقاً من مبدأ الفرصة السانحة التي ربما لن تتكرر بالنسبة لتركيا في نفس الظروف المناسبة لها وبهذه الفاعلية العالية المستوى.طبعاً لن يكون التوغل التركي في الأراضي السورية سهلاً ولا نزهة، فحسب المعلن ستمتد المعركة على حدود طولها 460 كيلومتراً بعمق أقله ثلاثون كيلومتراً، وستصاحبها مواجهات من خليط عسكري متمرس يمتلك قوى نوعية ورثها عن الدعم الأمريكي قبل انسحابه، علاوة على ورقة ستشكل ضغطاً أمنياً وعسكرياً على تركيا في حال تم استعمالها وهي إطلاق العنان لحوالي 12000 مقاتل من التنظيمات الإرهابية الذين تحتجزهم القوى الكردية شمالي سوريا، وإمكانية توغلهم في الأراضي التركية، وإعادة تنظيم صفوفهم من جديد، إضافة إلى احتمال مشاركة الجيش السوري في المعارك.في المقلب الآخر من العملية التركية المتصلة بمواقف الأطراف الأخرى في الأزمة السورية، ثمة خليط هجين من المواقف التي ستظهر وستتطور وفقاً لكيفية الاستثمار السياسي اللاحق للعملية. فمثلاً ثمة مصالح تركية روسية عالية المستوى ستجعل موسكو تنتهج مواقف ليّنة نسبياً لن تصل إلى حد هزّ الوئام السياسي والتجاري القائم بينهما، في الوقت الذي يمكن أن تستغله موسكو في الضغط على الأطراف الكردية للتقرب من دمشق وتقديم تنازلات تتصل بالنظام الدستوري الذي يعمل عليه عبر منصة أستانا. أما الموقف الإيراني الذي سيبدو أكثر حرجاً في عمليات الاستثمار اللاحقة، فمن حيث المبدأ لا توافق طهران على مثل هذا المستوى من التوغل باعتباره يفتح أبواب القضية الكردية في إيران التي سبقت وأن ذاقتها في أربعينات القرن الماضي، علاوة على طبيعة علاقتها مع دمشق، لكن على أية حال من الأحوال، ثمة مساحات للمناورات المشتركة بين تركيا وإيران لتقطيع الأزمة بأقل الخسائر المحتملة، وذلك في وقت يبدو فيه العراق المشغول بأوضاعه الداخلية مثل سوريا غير مؤثر عملياً في مسار الأزمة.إن مقاربة بسيطة لسلوك أمريكا في القضايا الخارجية التي تورّطت فيها، تثبت هروبها إلى الأمام وانسحابها لتعيد خلط أوراق أزمات إقليمية ودولية، ولم تكن يوماً من الأيام مستعدة لدفع أثمان مجانية، فقد انسحبت من فيتنام عام 1975، وسلمت سايجون للشيوعيين، مثل انسحابها من إيران وترك الشاه 1978، ولبنان 1983، والعراق 1998، وغيرها كثير في غير منطقة من العالم. اليوم انسحبت وتركت الأكراد لمصيرهم مثل غيرهم من حلفائها في المنطقة. طبعاً سيكون هناك خاسرون ورابحون من القرار الأمريكي والتدخل التركي، لكن في المقابل سيكون هناك خلط أوراق سياسية وميدانية كثيرة في المنطقة، ستكون بداية لأجندات طويلة لاحقة في ذكرى مئوية «سايكس بيكو» التي ربما ستتكرر بلاعبين جدد وبأشكال جيوسياسية جديدة في المنطقة. وحدهم الأكراد هم الخاسرون الكبار في هذه اللعبة، ثمة تباينات وخلافات ونزاعات وحتى صراعات بين دول أربع يوجد فيها الأكراد (تركيا وإيران والعراق وسوريا)، وهي في غالب الأحيان مختلفة، ولا تتوحد مواقفها إلا بمواجهة الأكراد وهم سر أزماتها المتلاحقة منذ قرن من الزمن. * رئيس قسم العلاقات الدولية والدبلوماسية في الجامعة اللبنانية

مشاركة :