“قم للمعلم، وفه التبجيلا، كاد المعلم أن يكون رسولا”، كانت هذه الكلمات التي قالها أحمد شوقي بمثابة الفصل الأول من دستور السلوك المدرسي الذي على الطالب التقيد بفصوله، وكان الآباء يحرصون على تعليمها لأبنائهم والاقتداء بها، لكن تغيرت المعادلة اليوم، وضاع صدى هذه الكلمات وسط صراخ أحد الأولياء على معلم لأنه عاقب ابنه التلميذ بسبب عدم الانتباه في القسم أو عدم إعداد فرضه. لم يعد غريبا، أن نرى طرفين يتخاصمان أمام المدرسة أو داخلها، ويتبادلان الشتائم بأصوات عالية دون مراعاة لقدسية المكان وحرمته وللأطفال الذين يتأثرون بذلك المشهد الذي يكون عادة بطلاه معلما أو مسؤولا في المدرسة من جهة، وأم أو أبا تلميذ، وفي الغالب تكون الأم، من جهة أخرى. تنتشر هذه المشاهد في مدارس مصرية، وفي دول عربية أخرى حيث يتحمل الطرفان المسؤولية، وإن كان النصيب الأكبر يقع على عاتق ولي الأمر، الذي عادة ما يكون هو المبادر، ويترتب على ذلك أن العلاقة بين أطراف المنظومة التعليمية أصبحت قائمة على الصدام لا التكامل. ويكاد لا يمر أسبوع حتى تعلن وزارة التربية والتعليم في مصر أنها تجري تحقيقات موسعة في اعتداء ولي أمر على معلم داخل قاعة التدريس، لأنه أهان ابنه أو تعدى عليه بالضرب لأي سبب، وبلغ الأمر حد قيام بعض الآباء باقتحام المدرسة والاعتداء على الطلاب المتجاوزين في حق أبنائهم، وإذا اعترضهم المعلمون نالوا جزءا من العقاب البدني والمعنوي. والخطير في الأمر وفق الخبراء أن هذا التصرف ينعكس على سلوك الأبناء، الذين سينتهجون نفس الأسلوب العنيف في التعامل مع أساتذتهم والإطار التربوي. ونظرا لفقدان سند قوي، كان يتمثل في دعم الأسرة، اضطر الكثير من المعلمين والأساتذة إلى الرد باستخدام العنف اللفظي والجسدي، ما ترتب عليه اتساع دائرة الصدام بين أطراف المنظومة التعليمية الثلاثة؛ الأسرة والمدرسة والطلاب. وقال محمد سعد وكيل وزارة التعليم لـ”العرب”، إنه رصد عن قرب أن السمة الغالبة عند الطلاب المنتمين لأسر تعادي المدرسة هي العدوانية في التعامل مع الآخرين، سواء معلميهم أو زملائهم، باعتبارهم أصحاب قوة على غيرهم، أكثر من بحثهم عن التفوق الدراسي، لأنهم أحيانا يتخذون آباءهم قدوة، أو يفعلون ذلك بطلب من أسرهم بأن يأخذوا حقهم بأيديهم. السمة الغالبة عند الطلاب المنتمين لأسر تعادي المدرسة هي العدوانية في التعامل مع الآخرين، سواء مع معلميهم أو زملائهم واقتحم ولي أمر طفل في الصف الثالث الابتدائي مدرسة ابنه الواقعة بحي العبور شرق القاهرة الخميس الماضي، وقام بالاعتداء المبرح على طفلين داخل الفصل لأنهما سرقا منه بعض الأدوات المدرسية، وعندما اعترضه المعلم اعتدى عليه أيضا، وبرر الأب أثناء التحقيقات هذا التصرف بأنه “أراد وضع حدود وخطوط حمراء لتعامل المدرسة مع ابنه”. وقبل أسبوع من هذه الواقعة، اقتحم أربعة أشخاص بينهم ولي أمر طالب مدرسة ابتدائية في مدينة المحلة، بشمال القاهرة، وأشهروا الأسلحة البيضاء واعتدوا على معلم لأنه لم يعاقب طالبا اعتدى على ابنهم، رغم أن الأخير بادر بالاعتداء، لكنهم تعمدوا إثارة الرعب داخل المدرسة ليكون موقفهم رسالة تهديد تمنع تكرار ما حدث مع الابن من معلم أو طالب. وتقدم ما يسمى بـ”تيار استقلال المعلمين” بمقترح إلى الحكومة لوضع حد للصدام الحاصل بين أطراف العملية التعليمية، يتضمن إنشاء جهاز شرطة للمدارس، بحيث يكون هناك فرد أمن أمام كل مدرسة، وهو اقتراح يصعب تطبيقه، لأن هناك 52 ألف مدرسة في مصر، وميزانية الدولة لا تسمح بتعيينات جديدة. وأضاف محمد سعد لـ”العرب” أن تحوّل علاقة ولي الأمر مع المدرسة من التكامل إلى الصدام يؤسس لجيل خارج عن السيطرة الأسرية والاجتماعية، والمشكلة أن الكثير من الآباء لديهم قناعة بأن دور المدرسة يقتصر على التعليم، أما التربية فهذه مسؤولية ولي الأمر ولا يحق للمعلم التدخل فيها، وهذا اعتقاد خاطئ يعوّد الطالب على التمرد والاستقواء، . صحيح أن هناك لائحة انضباط أقرتها وزارة التعليم لفرض الاستقرار بالمدارس، وتتضمن محاسبة الطلاب المتجاوزين، لكنها أغفلت وضع عقوبات على أولياء الأمور المعتدين. والأزمة الأكبر أنه في أحيان كثيرة يتدخل وسطاء ويتم التصالح بين المدرسة والطالب وولي الأمر، ويتم إلغاء العقوبة أو وقف التحقيقات، ما يعطي الفرصة للبعض بأن يتصرفوا بأريحية لغياب الصرامة في التعامل مع المتجاوزين. ويصعب ارتكاب مثل هذه الأفعال في المدارس الخاصة أو الدولية، وفي حال تجاوز الأب أو الابن أو تعمدت الأسرة قطع حبال العلاقة مع المدرسة، فإن الطالب يتعرض للإبعاد النهائي وإجبار أسرته على نقله في أقرب فرصة، لأن هذه المدارس تحافظ على هيبتها وسمعتها في المقام الأول، وهو ما تفتقده الكثير من المدارس الحكومية. ويرى مختصون في الشأن التربوي أن اتساع دائرة صدام الأسر مع المدارس يرتبط بتراجع دورها التربوي، حيث تحولت إلى عبء ثقيل على الأهالي، ومضيعة لوقت ومجهود الطلاب، لأسباب تتعلق بالتخبط الإداري والعشوائية في إصدار القرارات وارتفاع الكثافات الطلابية وتعمد بعض المعلمين التقصير في مهامهم لإجبار الطلاب على الدروس الخصوصية، فضلا عن العلاقة المضطربة بين أولياء الأمور وصناع القرار التعليمي أنفسهم. وقال المختصون إن شعور بعض الأهالي بأن وجود أولادهم في المدرسة تحصيل حاصل والدروس الخصوصية أساس التعلم، وسّع دائرة الصدام المبني على الكراهية، بعكس الماضي القريب، عندما كانت المدارس منبرا للعلم وبيئة مثالية للتربية، حيث كانت تعتمد على ولي الأمر في ردع ابنه، ووصل الأمر إلى قيام الأب بعقاب ابنه أمام الجميع. وحسب وجهة نظر عادل بركات، الباحث في علم اجتماع الأسرة، فإن مشكلة الحكومة تتمثل في أنها “اهتمت بقضايا هامشية في قوام نظام التعليم، وتجاهلت أساسيات التعلم، وعلى رأسها إعادة هيبة وقيمة ومكانة المدرسة عند الطالب وأسرته، واستمرار هذا الوضع كارثة، لأن الأسر أصبحت مشغولة بهمومها الحياتية ولا تراقب أولادها أو تهتم بسلوكياتهم، وفي نفس الوقت لا تقوم المدرسة بالتربية المنضبطة خشية الأهالي”. وأكد بركات لـ”العرب” أن انفصال الأسرة عن المدرسة والعكس، يجعل الأطفال أسرى للشارع والأصدقاء والزملاء في الفكر والثقافة والتربية، والتأثر بكل ما يحيط بهم، رغم أنهم في سن لا يسمح بالتمييز بين الصواب والخطأ، وبمرور الوقت سيصعب إعادة تقويم سلوكياتهم، وهذا سيكون له انعكاسه المستقبلي على المجتمع ككل. ويبقى الحل أن تتشكل مجالس آباء في المدارس دون استثناء بشروط ومعايير بعيدة عن المجاملات والعلاقات، على أن يتصف الأعضاء بسمات شخصية استثنائية ومقبولة للجميع، بحيث تسري قراراتهم وتوصياتهم على كل أطراف العملية التعليمية، ويكون الدور الأهم لهؤلاء، تهيئة الأجواء لإعادة العلاقة بين الأسرة والمدرسة وفرض الانضباط بوضع عقوبات صارمة لا تصالح فيها. ShareWhatsAppTwitterFacebook
مشاركة :