حينما احتفى مختبر السرديات والخطابات الثقافية في مدينة الدار البيضاء المغربية، العام الماضي، بأعمال الناقدة والباحثة والمترجمة العراقية فريال جبوري غزول ومسيرتها الأدبية في يوم دراسي بعنوان “فريال جبوري غزّول: تجربة نقدية عربية بأفق كوني”، اختصر الناقد والروائي شعيب حليفي شخصيتها، في تعبير مجازي، بأنها “امرأة بحجم جيش يحرّر المستقبل”، لأنها ذات أفق تنويري في كتاباتها، ولأن المواضيع التي تشتغل عليها حداثية، وتوظف فيها لغةً نقديةً وبحثيةً قويةً، وتجعل الأدب العربي والأدب العالمي جنباً إلى جنب. أما الباحث والناقد إبراهيم أزوغ فقد وصفها بأنها “مؤسسة ثقافية قائمة بذاتها”، لأنها تضطلع بمهام المؤسسات الثقافية وليس الأفراد، من خلال عملية الترجمة المزدوجة من العربية وإليها، والإشراف على أبحاث الترجمة، وعلى مجلة “ألف”، التي تُعدّ واحدةً من أهم المجلات العلمية الثقافية المشهود لها بالكفاءة والتميز الريادي في نشر الثقافة الإنسانية. تنحدر فريال جبوري غزّول، المولودة في الموصل عام 1939، من أسرة موصلية معروفة، وتلقت تعليمها في العراق ولبنان وبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية. وحصلت، قبل عملها أستاذةً للغة الإنكليزية والأدب المقارن في الجامعة الأميركية بالقاهرة، على شهادة الدكتوراه من جامعة كولومبيا عام 1978 في الأدب المقارن عن أطروحتها المخصصة لدراسة شعرية (بويطيقا) ألف ليلة وليلة بإشراف إدوارد سعيد. وقد ناقشها الناقدان الشهيران ميشيل ريفاتير وتودوروف، ولم تطبع إلا سنة 1980 في القاهرة بالإنكليزية، ورأى الناقد جابر عصفور أنها إضافة بنيوية أخرى في قراءة التراث العربي القديم. وتُعدّ غزّول من أوائل النقاد العرب الذين تمثلوا النظريات النقدية الغربية الحديثة، البنيوية وما بعد البنيوية، وحاولوا تقديم قراءة جديدة للتراث السردي العربي، في ضوئها، وأسهموا في تشكيل وعي جديد بالأدب والدرس النقدي العربي. وعلى صعيد الترجمة نقلت غزّول العديد من القصائد والمقالات العربية إلى الإنكليزية كان آخرها قصائد أدونيس، محمود درويش، أمل دنقل، وأشعار مختارة لأبي نواس. كما ترجمت إلى العربية كتاب “النظرية النقدية” لمجموعة نقاد، منهم إدوارد سعيد، ألتوسير، ريكور، بيرس، وريفاتير، وقصصا قصيرة للكاتبة الهندية أنيتا ديساي. وترجمت من الفرنسية مجموعة دراسات عن فلوبير، شهرزاد ما بعد الحداثة، والرواية العراقية القصيرة. حاولت غزّول في أطروحتها عن ألف ليلة وليلة تقديم قراءة في شعرية هذه الذخيرة هدفها إنارة الظاهرة المراوغة التي تسمى بالأدب لفهم ما أسماه جاكوبسون بـ”أدبية الأدب”، أي الخاصية التي تجعل من حديث ما أدباً، وذلك من خلال تجريد الخط الأساسي للقصة الإطارية (قصة شهريار وشهرزاد)، وتقسيمها إلى أربعة أقسام، مسجّلةً أنّ سمتها الأساسية هي الثنائية، فكلا الأخوين؛ شهريار وشاه زمان، مثلاً، ملك يحكم مملكته في سعادة بالغة، ويمر بتجربة مريرة. ولذا يمكن القول إنهما بمثابة الصوت والصدى. وكذلك تتمثل هذه الثنائية في علاقة شهرزاد بأختها دنيازاد. ثم تذكر غزّول أشكالاً مختلفةً للثنائية، وتربط بينها وبين بعض الظواهر اللغوية، فالتزاوج بين الشخصيات يشبه الترادف. أما على مستوى أحداث القصة فإنه يصبح تكراراً. وتتناول في الفصل الثالث ما تسميه بالشيفرات الثلاث للقصة الإطارية، وتقارب في الفصول اللاحقة ديناميات السرد القصصي الدائم. كتبت غزّول كتاباً آخر عن ألف ليلة وليلة باللغة الإنكليزية عنوانه “ألف ليلة وليلة: تحليل بنيوي” (1980) صدر عن الجامعة الأميركية في القاهرة، ولها أيضاً مجموعة كتب وبحوث كثيرة بالعربية والإنكليزية والفرنسية، إضافةً إلى دراسات في نظريات النقد، وعن ابن خلدون، وإخوان الصفا، وشكسبير، وأونجاريتي، وفلوبير، وقراءات نقدية في عدد من الروايات العربية. تُعد فريال غزّول من أوائل الكتّاب الذين عرّفوا بجهود إدوارد سعيد النقدية للقرّاء العرب حين نشرت مقالاً عن كتابه “العالم والنص والناقد” في مجلة فصول المصرية عام 1983، قبل ترجمته بسبعة عشر عاماً، ثم كتبت عنه مقالاً بعنوان “إدوارد سعيد معلّماً” في مجلة مشارف عام 2003، أكدت فيه أنه شكّل ظاهرةً نادرةً في مجال النقد والتنظير، حيث التحم عنده اتجاهان في النقد الأدبي أحدهما يبرز البعد الجمالي في الأدب والفن، والآخر يلحّ على البعد الاجتماعي والإنساني في الإبداع، ولم يكن هذا التلاحم بين هذين الخطين توفيقاً أو تلفيقاً، مجاورةً أو ممازجةً، وإنما نبع من رؤية فلسفية لا تقوم بفصل قسري بين ما هو جميل في النص وما هو جميل في الحياة. وختمت المقال قائلةً “ليبق إدوارد سعيد ذخراً ونبراساً في هذا الليل العربي الطويل ولنتعلم منه ألاّ نُلبس الحق بالباطل وأن ننتظر الفجر، لا بالصبر فحسب، بل بالعمل المتواصل، المدروس والهادف، كما كان إدوارد سعيد يؤمن إيماناً لا يرقى الشك إليه. نقول لتربته مستعينين بصورة مجازية من تراثنا الشعري: جادك الطل والغيث!”. من أبرز الدراسات التي كتبتها غزّول، ونشرتها في مجلة فصول “المنهج الأسطوري مقارناً”، “الواقع الأدبي: فيض الدلالة وغموض المعنى في شعر محمد عفيفي مطر”، “لغة الضد الجميل في شعر الثمانينيات: النموذج الفلسطيني”، “صفاء زيتون: عصافير على أغصان القلب”، “نحو تنظير سيميوطيقي”، “آفاق نقدية: قصيدة السجن من البيان إلى البلاغ”، “أيديولوجية بنية القص”، “جولة في نقد ألف ليلة الجديد”، “قصص الحيوان بين موروثنا الشعبي”، “العطش يقيناً: صورة الفنان في شيخوخته”، و”قراءات: شعرية الخبر”. كما نشرت مجموعة دراسات نقدية أخرى في مجلات أدبية مختلفة، مثل “الشاعر ناقداً” في مجلة الكرمل، تعرّف فيها بالرؤية الجمالية والوعي النقدي عند الشاعر محمد عفيفي مطر، و”استبطان لاهوت التحرر والتجلي في بئر جبرا الأولى” في مجلة الآداب، و”أم القصائد” في مجلة إبداع المصرية عن منظور نازك الملائكة للشعر، ليس من خلال كتابها “قضايا الشعر المعاصر”، بل من خلال إنجازها الشعري وعبر تطبيقاتها وممارساتها في القصيدة، أي ما تقوله شعرياً عن الشعر في قصيدتها التي تحمل عنوان “إلى الشعر” المكتوبة عام 1950 في ديوانها “شجرة القمر”، و”الرواية الصوفيّة في الأدب المغاربي”، في مجلة “ألف” (مجلة البلاغة المقارنة)، و”تجليات الجنس في الرواية العربية”، و”ذاكرة الأدب في ذاكرة الجسد” في مجلة الكلمة. وكان آخر مؤلفاتها كتاب “الريادة في الرواية: ثلاثية الخرّاط” الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في القاهرة عام 2018 تجليات الجنس ترى غزّول في دراستها “تجليات الجنس في الرواية العربية” أن تجلي العلاقات الجنسية في الرواية العربية يعترضه عائقان: أولهما اعتبار الحديث عن الجنس محرّماً وغير مباح يطارده مقص الرقيب وإدانة المجتمع. وقد أدى هذا إلى استخدام التورية والتلميح أحياناً، عوضاً عن البوح والمجاهرة في الخطاب الروائي، ذلك أن الجنس موضوع شائك ومعقد لا لأننا نستحيي من تداوله فحسب، بل لأن الحديث عن الجنس في تحققه الإنساني يتحدى إمكانيات اللغة ويخرج عن المألوف والعادي، ومن ثم تصوير المتعة الجنسية يصبح معضلةً لغويةً. وفي هذا السياق تثير الناقدة سؤالاً لم تجد له رداً مقنعاً مفاده متى وكيف ولماذا أصبح الجنس تابو في الخطاب الأدبي عندنا بعد أن كان موضوعاً مباحاً في التراث العربي الإسلامي بدءاً من امرئ القيس ومروراً بأبي نواس والجاحظ وألف ليلة وليلة؟ واختارت غزّول بعض النماذج الروائية والسيرة الذاتية لتقديم تصويرها للجنس، وتجليات أبعاده وأنواع ميوله؛ مؤكدةً أن الجنس يكاد يكون مشتركاً بين كل الروايات العربية وإن تجلّى بأشكال مختلفة، فكان مستتراً أحياناً وحاضراً إلى درجة التصريح أحياناً أخرى. والجنس المستتر في الرواية العربية بأهمية الجنس المتجلي فيها في نظرها، فلا يمكن الاقتصار على ما هو واضح، وغض النظر عما هو متوارٍ، لأن الصنعة الروائية ذاتها تعتمد على لعبة التجلي والتواري. من النماذج التي حللتها “زقاق المدق” لنجيب محفوظ، “وصف البلبل” لسلوى بكر، السيرة الذاتية للطيفة الزيات الموسومة بـ”حملة تفتيش أوراق شخصية”، “الخبز الحافي” لمحمد شكري، “أنا أحيا” لليلى بعلبكي، “حبات النفتالين” لعالية ممدوح، “مسك الغزال” لحنان الشيخ، “المسرات والأوجاع” لفؤاد التكرلي، “دنيا” لعلوية صبح، “ذات” لصنع الله إبراهيم، و”تصطفل ميريل ستريب” لرشيد الضعيف. وتستنتج غزّول في هذه الدراسة أن الجنس في مسيرة الرواية العربية انتقل من المضمر إلى المصرّح به، من الخفي إلى المتجلي، إمعاناً في الواقعية أحياناً وأحياناً أخرى نقداً للواقع عبرة شيفرة الجنس. كما تنطلق تجليات الجنس في الرواية العربية لتكشف المستور من العلاقات، وتتصدى للنفاق الاجتماعي، ومن خلالها يظهر تشريح لمجتمع تقليدي بكل آلياته التي تقمع وتتستر، وتتاجر بالجنس وتتظاهر بالعفة. ذاكرة الجسد قدمت غزّول في دراستها “ذاكرة الأدب في ذاكرة الجسد” مساجلةً نقديةً مع ردود الفعل المتباينة التي أثارتها رواية أحلام مستغانمي الأولى، ثم تتبعتها بتحليل ضاف للرواية يفسر كثيراً من اللغط الذي أثير حولها. تقول غزّول إن “من اللافت إزاء جماهيرية هذه الرواية اختلاف النقاد حولها اختلافاً بيناً، فمنهم من لم يكتف بالانصراف عنها، فقرر إدانتها لاعتبارات كثيراً ما كانت خارجة عن موازين النقد ومعاييره. وهناك من فتنوا بها وأشادوا بقيمتها. ولعبت الصحافة دوراً في الانتقاص من قيمة هذا النجاح الهائل. فزعم البعض أن مستغانمي انتحلت هذا العمل، ولكن اختلفوا فيمن يكون صاحبه الأصلي، فعوضاً عن الابتهاج بعمل أدبي يقبل القراء عليه، تسابقت الأقلام في استدعاء آباء غير شرعيين لهذه الرواية، وأطلق البعض عليها ‘الكتابة بالجسد’ عوضاً عن ‘ذاكرة الجسد’، مما يتجاوز التلويح بالتزييف إلى التشهير بالكاتبة نفسها”. وفي قراءتها للرواية، تذهب غزّول إلى أن أسلوبها شعري غنائي، وليس إنشائياً. وهو جذاب، لا لأنه تقليدي، بل لأنه يعتمد على استعارات في متناول القارئ العادي، تبتعد عن التجريد والتعقيد؛ كما أن الأسلوب يتوسل الأمثال الشعبية، والأقوال المأثورة. و”ذاكرة الجسد” ليست رواية تقليدية، بل استرجاع عبر مونولوج داخلي لما كان ولما لم يكن. وكما في عملية التذكر ثمة شذرات وإلماعات، على القارئ أن يجمعها ليشكل منها حبكة الرواية. وهذا التبعثر والابتعاد عن حبكة مرسومة ومخطط لها من بداية ونهاية وما بينهما، تجعل من العمل تحدياً للقارئ واستدراجاً له ليدخل في لعبة القراءة. وإن كان القارئ العادي ينصرف عن مجهود الربط والتأويل، فهو هنا ينخرط في ذلك تماهياً مع عالم الرواية. وتمضي غزّول في تحليلها لـ”ذاكرة الجسد” مؤكدةً أنها تقدم، سواء كان ذلك تخطيطاً واعياً من المؤلفة أو إبداعاً حدسياً، علاقات مركبةً ومتشابكةً تسمح بقراءات متعددة وعلى مستويات مختلفة، لكنها تتضافر جميعها في استدراج القارئ إلى اقتفاء أثر القديم في الجديد أو الماضي في الحاضر. فهناك حكاية حب غير متحقق، وهناك حكاية وطن مفقود، وهناك حكاية الحكاية مطروحة في صيغة تساؤلية؛ أي كيف ومتى ولماذا نكتب الرواية. لكن ثمة، أيضاً، ما هو أعمق ألا وهو استبطان معنى العشق واحتواؤه على علاقات القرابة الحميمة من أمومة وأبوة، ومن بنوة وأخوة. وهذا يؤهل الرواية لدراسات تجمع بين النقد الأدبي والتحليل النفسي. البعد الوجودي في تحليلها لرواية عالية ممدوح “المحبوبات” تقول فريال غزّول “إن الرسالة الروائيـة في رواية المحبوبات رسـالة ذات بـعد وجـودي عـن إمكـان تجاوز المحـن فـي عــالم بشـع ومـوجع، عـن إمكـان استعـادة البشر لإنسـانيتهم. وتصرّ على إمكـان الصمود والمقاومة أمام قوى ساحقة وموت معنوي”. وفي دراستها للرواية الصوفيّة في الأدب المغاربي ركزت على رواية “بعيدا عن المدينة” لآسيا جبار، مبيّنةً أنها تعيد تأثيث صفحات التاريخ الإسلامي بأن تجعل من الهامشي في كتب المؤرخين مركزاَ فاعلاَ ومحركاً لما حوله، وذلك بالاستناد إلى رؤيا ومنظور مغاير، وبذلك يتم تفعيل الاجتهاد الذي تمّ تعطيله منذ القرون الأولى، فآسيا جبار تجاهد مجاهدة الصوفي لتستكمل ما خفي من خلال استقراء الآثار المكتوبة وتأويلها مع شحذ قدراتها. عالم الخرّاط تعيد غزّول في كتابها “الريادة في الرواية: ثلاثية الخرّاط” اكتشاف عالم إدوار الخرّاط الإبداعي المدهش في رواياته “رامة والتنين” و”الزمن الآخر” و”يقين العطش”، وبيان دوره الريادي المهم في ثراء المشهد الأدبي بأساليب قصّ مختلفة ورائدة. إن عالم الخرّاط، في رأيها، كفيل بنقل القارئ من حدود الحصار الأرضي إلى أفق السحب البعيدة، ومع ذلك يظل متعاركاً وراصداً للواقع المعيش بكل تناقضاته وصراعاته. تجمع غزّول في هذا الكتاب بين الرصد العلمي المنهجي الموثق من جانب، وروح النقد الإبداعي المتأججة وراء الكتابة من جانب ثانٍ، مشخصةً خصيصةً أسلوبيةً لدى إدوار الخرّاط هي “شبقية الأسلوب”، رافعةً إياها من المعني الملتبس الشائع في كثير من النصوص الراهنة إلى أفق الفرادة والتميز، إذ امتلك الخرّاط القدرة على شحن أيّ جملة عابرة في خطابه المتنوع بطاقة شبقية فريدة، فتفاصيل الأشياء اليومية العادية تصبح لها خصوصية، وشخصية حسية متفجرة بطاقة تعبيرية لافتة، ومن ثم تكتسب ثراءً دلالياً، وغنى رمزياً، وتصير مفردات في عالم شعري، لكل تفصيلة فيه وظيفة جمالية.
مشاركة :