تداولت وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي مؤخرا تقنيات الدرونز على نطاق واسع كانعكاس طبيعي للتطورات المصاحبة لاستهداف المنشئات النفطية للمملكة العربية السعودية بأعمال تخريبية والمخاوف العالمية تجاه تلك الأعمال واثرها على الاقتصاد العالمي واستقرار أسواق النفط. كما تزامن ذلك مع العديد من الأعمال السينمائية التي وظفت التكنولوجيا والخيال العلمي في صياغة أحداثها كأحد أدوارها التاريخية في تشكيل ثقافية الأجيال. وعلى مر التاريخ، اتفق العلماء والمؤرخين أن المتغيرات البيئية والاقتصادية والسياسية تبلغ ذروتها وتكون أكثر عمقا حينما تؤثر ثقافيا على المجتمعات سواءً على المدى القريب أو البعيد. ومع ما قدمته الحضارة الحديثة من تقدم وازدهار في مختلف المجالات العلمية والتكنولوجيا والثقافة والفنون، بدأت تظهر انعكاسات تلك الصناعات على التركيبة المجتمعية وأظهرت ثقلاً وسطوة في التأثير على كثير من مجريات الحياة الواقعية. ولو عدنا بالذاكرة لتذكرنا الأحداث التاريخية في فيلم عمر المختار وتفاعلنا معها أكثر من تفاعلنا مع نقرأه على صفحات الكتب وندرسه في صفوف الدراسة. بل إن العديد من الجرائم التي هزت العالم اقتبست أفكارها من أفلام سينمائية. وعلي صعيد البحث العلمي، يتفق البعض على تصنيف الأبحاث العلمية إلي نظرية تمثل ترفا علمياً حينما تفتقر للجوانب التطبيقية، أو أبحاث تطبيقية تلامس احتياجات وقضايا المجتمعات المعاصرة وتساهم في الارتقاء به وحل إشكالياته بشكل مباشر، وما بين الصنف الأول الثاني وهي الأبحاث التي تشكل إضافة في بحر العلم وتمد الجسور نحو المستقبل بخطى ثابتة لاكتشافات أكثر نفعا للبشرية قد لا نراها اليوم. وتعرف الدرون (Drone) علمياً بمسمى Unmanned Aerial Vehicle وتختصر (UAV)أو الطائرات بدون طيار والتي يتم التحكم بها عن بعد عن طريق مركز تحكم أو ذاتيا من خلال خوارزميات ذكية مستقلة أو خليط بين التحكم المركزي والذاتي. كما يمكن تصنيف الدرونز بحسب الغرض من استخدامها إلى درونز الهواة وعادة ما تكون استخداماتها ضمن النطاق الشخصي بغرض الترفيه والرياضة والتقاط السلفي. أو الدرونز التجارية وتستخدم لتحقيق منفعة تجارية كتوصيل الطلبات والطرود البريدية والتصوير الجوي وتسجيل الفيديو. أما النوع الثالث فهي الدرونز العسكرية والتي تحلق لأغراض محدده كالهجوم والتجسس ومكافحة الشغب أو كمضادة للهجوم. كما يمكن تصنيف الدرونز بحسب تصميمها وعدد محركاتها إلى درونز شبيهة بالطائرة بأجنحة ثابتة، أو النوع الثاني وهو الأكثر شيوعا ويشبه الهيليكوبتر بدوارات (محركات) احادية single rotor أو متعددة المحركات multi-rotors. ويختلف تصنيف الدرونز أيضاً بحسب الحجم، ومدى الطيران ومدته، أو بحسب المهام والعتاد الذي تجهز به مثل: الكاميرا، الصواريخ، وأنظمة تحديد المواقع والملاحة، وتقنيات الاستشعار المتعددة. ويمنح هذا التمايز في المواصفات والإمكانات إتاحة المجال واسعا للمهتمين بالدرونز لخلق العديد من التطبيقات والابتكارات في مختلف المجالات المدنية والعسكرية والطبية والشخصية وتجويد الخدمات وتنويعها والترفيه والمراقبة والضبط والبناء والنمذجة. وتتصدر قائم أهم المجالات التطبيقية المستقبلية للدرونز مجالات الأعمال لتعزيز Service delivery كأحد أول المجالات وأكثرها اتساعا وأثراً في المستقبل القريب. وتشمل توصيل الطرود البريدية والوجبات وتوصيل جميع الخدمات اليومية بأنواعها. والمجال الثاني هو توسيع تغطية خدمة الإنترنت لتغطي كل بقعة من بقاع الأرض. والمجال الثالث وهو التصوير الفوتوغرافي خصوصا في الأماكن المرتفعة وتحت الماء والأماكن التي يصعب الوصول إليها. أما المجال الرابع فهو النمذجة للمجسمات ثلاثية الأبعاد. والمجال الخامس هو المجال الزراعي للري وتوزيع البذور وغيرها. ويمثل المجال السادس في الأهمية هو تطبيقات البناء وفحص المباني. كما يوجد توجه كبير لتوظيف الدرونز في أعمال الإغاثة والبحث والإنقاذ بسرعة وأمان أكبر. و تستخدم الدرونز لمراقبة ورصد الظواهر المختلفة وكذلك في الألعاب والمسابقات، حيث شهد نهائي كأس خادم الحرمين الشريفين العام المنصرم عروض جميلة بطائرات الدرون لفتت أنظار الشباب. كما شهدت احتفالات افتتاح موسم الرياض يوم امس استخدام الدرونز لالتقاط الصور والفيديو وبثها مباشرة على شاشات العرض. وقد نظمت الصين أكبر عرض ضوئي سمائي باستخدام مايقارب ١٤٠٠ طائرة “درون” واستمر العرض الذي غطى مساحة 1 كلم٢ لمدة 13 دقيقة. كما استضافت المملكة النسخة الثالثة من سباق الدرونز العالمي كجزء من الجهود المتميزة للاتحاد السعودي للأمن السيبراني والبرمجة والدرونز في الاستفادة من الخبرات العالمية لبناء الكفاءات الوطنية في عدد من المجالات الهامة. وتشكل التطبيقات العسكرية للدرونز تحديا كبير للعالم أجمع بسبب سهولة توظيفها لتنفيذ الهجمات والمهام العسكرية الخطرة وتوظيف التكنولوجيا لأداء مهام عسكرية أكثر تعقيدا وضررا عن بعد. وتتفاوت مواصفات الدرونز العسكرية وأحجامها وتكلفتها المادية ومدى طيرانها بحسب الهدف الذي صممت له. ومع دخول الدرونز إلى حيز التطبيق في المجال العسكري، استنفرت إدارات البحث والتطوير في وزارات الدفاع حول العالم لاستكشاف جميع الاستخدامات المختلفة للدرونز. و تدرك الحكومات هذا الخطر ويتزايد حرصها على معرفة كيفية توظيف هذه التقنية سواءً للدفاع والهجوم. ففي أوائل يونيو ٢٠١٧، رصدت المفوضية الأوروبية مايقارب 1.7 مليار دولار لشركات الأسلحة كمبلغ لتطوير تقنيات عسكرية جديدة في هذا المجال على وجه التحديد. ولعل مايزيد صعوبة التصدي للدرونز العسكرية هو تفاوت مواصفاتها وامكاناتها حيث لا يوجد حتى اليوم شركة عالمية أو بلد مسيطر على تصنيعها. وبالرغم أن قرابة 90 دولة لديها طائرات بدون طيار في ترساناتها العسكرية ، إلا عدد ١٠٪ فقط منها تمتلك درونز ذات مواصفات متقدمة تجمع بين التسليح والذكاء الصناعي والقدرة على تخطي أنظمة اكتشاف الاختراق وغيرها من مواصفات التواصل والتحكم والمعالجة المتقدمة. وتدور أحداث فيلم Angle has Fallen الذي عرض موخراً عن مؤامرة لاغتيال الرئيس الأمريكي من خلال طائرات درونز يتم التحكم بها عن بعد، حيث استهدفت الدرونز قتل الرئيس خلال تنزهه للصيد بالقرب من البيت الأبيض. كما استهدف الهجوم المدبر خلال أجزاء من الدقيقة قتل كامل طاقم حماية الرئيس ماعدا أحد العملاء السريين المرافقين للرئيس في محاولة لتجريمه. ويظهر السيناريو توظيف التكنولوجيا وتقنيات الاتصالات والتحكم عن بعد والاختراق والذكاء الاصطناعي لإتمام الهجوم بمنتهى الدقة حيث تقوم طائرات الدرونز بالتعرف على هوية الأشخاص والتنسيق فيما بينها في الزمن الحقيقي للهجوم. كما تناول خطورة التكامل في توظيف هذه التقنيات المتقدمة والوسائل الأخرى لإتمام هجمات وجرائم أكثر تعقيدا تتضمن التلاعب تقنياً بالأدلة الجنائية وقرصنة السيارات وتعطيلها والتلاعب بذاكرتها والسيطرة على مراكز المعلومات والتحكم في المباني الذكية والمستشفيات. وإذا كان من يشاهد تلك الأفلام يتساءل عن مدى واقعية هذه السيناريوهات وعن إمكانية توظيف الدرونز وتكاملها مع التقنيات الأخرى حولنا لخلق فضاء واسع من التطبيقات التي قد تشكل تهديدا على بعضها البعض وتهديداً للأمن الوطني للشعوب على أرض المعمورة؟ فالجواب نعم، يمكن ذلك. بل إنه من المتوقع حدوث تسارع عالمي وتوسع في تطبيقات الدرونز ولا نملك سوى الاتساق مع هذا التسارع ومجاراته في مختلف القطاعات التي ذكرناها وأهمها الأعمال والألعاب والاستخدامات الشخصية بالإضافة للتطبيقات الأمنية والعسكرية التي تشكل تحديا عالميا. ويواكب البحث العلمي في جامعاتنا هذه التطورات المتلاحقة، فضمن أبحاثنا الحالية قمنا بتطوير خوارزميات ذكية ومستقلة ذات فعالية لتلافي الاصطدام المحتمل بين طائرات الدرونز وهي أحد أهم القضايا البحثية والتطبيقية الهامة في هذا المجال (Collision Detection and Resolution in Multiple Unmanned Aerial Vehicle) خصوصا عندما تتشارك طائرات الدرونز التي تعود ملكيتها لأكثر من جهة الفضاء القريب أو البعيد مما يشكل تهديدا للممتلكات والأرواح. ونجحنا في تطوير خوارزمية هي الأولى من نوعها في هذا المجال. كما أن قرصنة المركبات ليست اسطورة بل هي واقعاً يمكن حدوثه للسيارات والطائرات وغيرها خصوصا أن معظم هذه المركبات تحتفظ بإعداداتها المصنعية الأساسية ولا تتوفر لها التحديثات التي تمكن أنظمتها من تلافي الثغرات الأمنية في برمجياتها أسوة بالأنظمة الحاسوبية الأخرى كالكمبيوتر والجوال وغيرها بالإضافة لبساطة الآليات المستخدمة في تشفيرها مقارنة بالأنظمة الحاسوبية الأخرى. وتتضاعف خطورة اختراق المركبات والطائرات وغيرها من الأجهزة الذكية الأخرى كونها تؤثر بشكل مباشر على سلامة البشر وصعوبة ايقافها في الزمن الحقيقي مقارنة بالخطر الذي تشكله الهجمات على الأنظمة الالكترونية من فقد للبيانات أو ضرر بخصوصيتها. وقد تناولنا في أحد أبحاثنا السابقة موضوع قرصنة لوحة تحكم السيارة وطرق تعطيلها وقدرة المخترقين على تطوير أدوات في منتهى الخطورة كاختطاف سيارة جيب عبر الإنترنت والتحكم بها عن بعد أثناء سيرها على الطريق السريع. وقد حصل هذا البحث على أحد جوائز اللقاء العلمي السادس لطلبة جامعة الملك سعود. وفي حين يتخوف الكثيرون من قدوم تقنيات الدرونز وانترنت الأشياء Internet of Things وانترنت الأشياء المتطايرة Internet of Flying Things وقد يرون سلامة الحد منها وتضييق نطاق استخدامها، إلا أن الواقع يحتم أهمية مواكبتها والتمكن منها والاستفادة من كل ما تتيحه من منافع والحد من أضرارها. بل إننا بحاجه ملحة لرفع مستوى الوعي بها وبناء الكفاءات الوطنية اللازمة في هذه المجالات وتمكين الشباب وصغار السن من الابتكار في هذه المجالات وتعزيز التنافسية ورعاية المبدعين في توظيف هذه التقنيات لتسهيل حياة البشر وزيادة فعالية الخدمات والاستخدام الأمثل للموارد وتعزيز الأمن الوطني كجزء من رؤية المملكة ٢٠٣٠. بالإضافة إلى أهمية استشراف المستقبل وعمل الدراسات الاستراتيجية اللازمة لتقسيم المجال الجوي الغير معزول بما ينظم ويسمح بالاستغلال الأمثل والآمن له استعدادا لاستقبال هذه التقنيات.
مشاركة :