الحراك الشعبي يقلب الطاولة على الأحزاب والطائفية

  • 10/23/2019
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

فاجأت الانتفاضة السلمية في لبنان الجميع بثلاثة ملامح جديدة مختلفة عما شهده لبنان في الانتفاضات والاحتجاجات السابقة: الملمح الأول أنها خارقة للطوائف والأحزاب. الملمح الثاني: أنها سلمية تمامًا وجامعة لجميع فئات وطبقات المجتمع. الملمح الثالث: أنها تجاوزت في مطالبها الجوانب المعيشية - التي وإن كانت الأساس وراء اندلاع هذه الاحتجاجات- الى المطالبة بتغيير النظام والمنظومة الحاكمة التي تسببت دائما بمجمل الإشكاليات التي تعيق العمل الحكومي وتنفيذ إصلاحات حقيقية، فلا ثقة في الحكومة ولا في رئاسة الجمهورية، ولا في حكم الطوائف. الملمح الرابع: ما كنا أشرنا إليه في أكثر من مناسبة بأن زمن الأحزاب السياسية في العديد من البلدان العربية، ومنها لبنان، قد بدأ يتراجع، وأن الجماهير الواسعة قد بدأت تفقد الثقة في هذه الأحزاب لأنها، إما تحولت إلى ميليشيات تكرس مصالحها وتستفيد من الأوضاع القائمة بل وتحولت جزءا من منظومة الفساد والتردي وحتى القمع، وإما أنها تآكلت وأصبحت فاقدة للتأثير والفعالية لأنها تعيش خارج سياق التحولات. ولذلك كان من اللافت ان هذا الحراك الشعبي العابر للأحزاب والطوائف قد تحول إلى بديل جماهيري للدفاع عن مصلحة عموم الشعب الذي يعاني على كافة الأصعدة. ولم يسلم أي زعيم أو رمز من رموز الأحزاب أو زعماء الطوائف من غضب المحتجين، ما مكن من هذه الهبة الجماهيرية غير المسبوقة ترجمة وحدة الشعب الذي تقاسمته الطائفية وأنهكته. هذه الانتفاضة الجديدة قد تكون مهمة بالنسبة للبنان، إذ قد تعكس تحولا جديدا في اتجاه لبنان الموحد وطنيا في وجهة عبث الأحزاب. فلبنان الذي عاش أسوأ حرب أهلية عربية بين مكوناته خلال أكثر من 15 عاما، حتى أنقذه منها اتفاق الطائف، يعرف أكثر من غيره ماذا تعني الحروب الاهلية الطائفية، وماذا يعني ادخال لبنان في الصراعات الطائفية والاقليمية، ولذلك حاول ان يتجاوز تركة تلك الحرب الأهلية، إلى أن اخترقت إيران جزءا مهما من مكوناته وحولته الى ميليشيا عابرة للحدود، تخوض حروبا بالنيابة عنها وعلى حساب لبنان واستقراره ووحدته ونمائه. وتحول حزب الله داخل البنيان اللبناني إلى مشكلة سياسية وعسكرية وامنية في ذات الوقت. فإيران تخوض حروب التوسع والسيطرة وتجد في حزب الله ذراعها العسكري الملشياوي لإخضاع لبنان ومواقفه للتدخل في سوريا والعراق واليمن، وغيرها من المناطق، فيتصرف وفقا للتوجيهات الإيرانية، لتؤثر به على محرار السياسية الإقليمية، باعتباره ميليشيا فوق القانون. هذا الوضع الشائك أصاب السياسة اللّبنانية بنوع من الشلل البنيوي الذي كثيرا ما عطّل الشرايين الحيوية للمجتمع والاقتصاد، لأنه يسهم في إعادة التشكل وفق الاصطفافات الجديدة القائمة على موازين القوة (المادية) وليس السياسية، والقوة العددية الطائفية وليست القوة القائمة على الإقناع والبرامج. دراماتيكية المشهد الذي عاشه وما يزال يعيشه لبنان بفعل التدهور المعيشي والبطالة وتراجع قيمة العملة -إضافة الى الدور المتعاظم لحزب الله وسلاحه وتمدداته وهيمنته على المشهدين الأمني والسياسي - تتعزّز بالحصيلة الكارثية لمسار المواجهة التي أوقعت لبنان في هذا الوضع المرتبك الذي يدفع ثمنه الشعب من أمنه وحقوقه الدّنيا في العيش الكريم. الحكومة الحالية برئاسة الحريري وجدت نفسها غير قادرة على فعل شيء تقريبا رغم جميع التنازلات والتوافقات؛ لأن لبنان يعيش تحت سيطرة حزب الله الذي يتصرف خارج سلطة الحكومة ويخترق الحدود المسومة ويحرك الجيوش الخاصة به، يعقد التحالفات ويدخل ويخرج وكأنه لا دولة ولا جيش.. وحتى المظاهرات الشعبية الجامعة للبنانيين المرهقين واجهها أمين عام حزب الله بالتهديد والوعيد والتحذير بإسقاط اتفاق الطائف والتحرك لتغيير المعادلات.  فحكومة الحريري التي ولدت بصعوبة بالغة وبجهد جهيد، وجدت نفسها أمام حقيقة تعرفها مسبقا، ولكن ربما لم تدرك جيدا حجم التغلغل وحجم التأثير الضاغط لحزب الله الذي يبدو انه لا يريد أكثر من حكومة ذات طبيعة إدارية تصرف الأعمال اليومية والشؤون البلدية، أما الأمور الأخرى فإن الذي يقررها بالقوة هو حزب الله. تلك الحكومة سعت إلى أن يكون لبنان دولة بمقومات دولة، فوق الأحزاب والرايات والطوائف، دولة مؤسسات تحتكم إلى المؤسسات. ولكنها وجدت نفسها غير قادرة على تنفيذ ما تصدر من قرارات، فلماذا تصدر مثل هذه القرارات إذن؟ هذه الحصيلة اللبنانية التي هندس معالمها النظام الطائفي لم تعد مقنعة للبنانيين الذي خرجوا الى الشارع رافعين اعلام وطنهم بعيدا عن أحزابهم وطوائفهم. لقد أدركوا عمق أزمة السلطة وأزمة المجتمع وأزمة الاقتصاد في آنٍ، بعيدا عن الوقوع مجددا في أتون الحرب والمواجهة، حيث يكون لكل طرف خطوطه الحمراء التي دونها الدم والنار.. ذلك هو المأزق الذي لا فكاك منه، ومع ذلك ما يزال البعض يصرّ على تعليق كلّ الأزمات والانهيارات على شمّاعة الصّراع العربي الصّهيوني، أو على غيره من القضايا، ولكن الشعب اللبناني الذي هب هذه المرة حاملا همه المشترك وتطلعاته المشروعة في حياة أفضل وغضبه على الطبقة السياسية التي يتهمها بالفساد والعجز، لم تعد تقنعه ولا تلهيه الخرافات الطائفية ولا الرايات الحزبية ولا حتى نظرية المؤامرة. بل أصبح يواجه الحقائق كما هي، رافضا الإحالة على مرجعية المؤامرة. التي درج زعماء الخطوط الحمراء، على الإحالة عليها باستمرار والتي أطبقت على الرقاب منذ نكبة 1948. باسمها تأجّل حلم الحرية لعقود من الزمن، وباسمها استبيحت دماء بريئة وأغلقت منافذ على الفكر والتعبير، وباسمها تتأسس كلّ يوم فرقة جديدة تعلن الوصاية على البشر والحجر والحقيقة والوهم والحلم والمأكل والملبس والحلال والحرام. باسم هذا الصراع نبرر كل شيء: قتل الأبرياء حرق البلد، واجتياح المدن والقرى، واستحضار الخارج والاستنجاد به عند الضرورة. لبنان اليوم أمام مفترق طرق قد يقوده إلى تحول تاريخي يغيّر طبيعة النظام تجاوزًا للطائفية، وليس التغيير الذي يهدد به حزب الله بتكريس الغلبة الطائفية. ولكن هل تنجح الجماهير المسالمة الموحدة في هزيمة البنية الطائفية الصلبة؟ ذلك هو السؤال. همس أرفع النخب بعد تعب الترحال، ووحل المعابر الكئيبة. أبحث عن عناق اللحظة الأخيرة. فامسحي جبيني، فأنا مرهق. وأعيدي لي روحي، نتقاسمها، فقلبي طاعنٌ في الحزن.

مشاركة :