طوت تونس الاربعاء صفحة أخرى من تاريخها بعد تنصيب قيس سعيد رئيسيا للبلاد، لكن الأمور ستزداد غموضا في الفترة المقبلة، إذ أن أكثر ما يثير الجدل بين الأوساط الاقتصادية والشعبية عملية انعاش الاقتصاد المتدهور. ولعل أكثر ما يتفق عليه التونسيون هو أن الإصلاح الاقتصادي الفعلي لن يحصل إلا إذا توفرت الإرادة السياسية وهذه النقطة تبدو مفقودة في ظل التجاذبات بين الأحزاب التي وصلت إلى البرلمان الجديد، حيث يقع على عاتقها تشكيل حكومة تحظى بتوافق. وتنتظر الحكومة القادمة، التي يتوقع أن يتم تشكليها خلال أسابيع ملفات حارقة وعهدة جديدة مزدحمة بالتحديات الاقتصادية وخاصة الاستجابة لطموحات الشباب الطامح إلى الخروج من حصار البطالة. ويجمع خبراء ومحللون تونسيون على أن الحكومة الجديدة ورثت ملفات اقتصادية على غاية من الأهمية إلى درجة أن هامش تحركها لن يكون كبيرا، وأنه يتعين عليها منذ اليوم الأول الانكباب على حلها. واعتبر الخبير عزالدين سعيدان في تصريح لوكالة الأنباء الرسمية (وات) أن أهم تحدّ يتمثل في كيفية تنفيذ موازنة 2020 التي بيّن أن بناءها غير متوازن لا سيما وأن حوالي نصفها سوف يخصص لبند الأجور. وبحسب وثيقة الموازنة القادمة ستكون فاتورة الأجور حوالي 19 مليار دينار (6.74 مليار دولار)، من أصل حجم الموازنة البالغ قيمتها 16.67 مليار دولار. ويرى سعيدان أن حجم الموازنة يمثل نحو 40 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي والحال أن المعايير الدولية تشترط ألا يتجاوز حجمها العشرين بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي. ومن التحديات الهامة التي تنتظر الحكومة المقبلة وفق سعيدان، مسألة الاقتراض المبرمج لتمويل الموازنة، الذي سيناهز 4.26 مليار دولار بزيادة بنحو 16 بالمئة عن توقعات الموازنة الحالية، وهو ما يزيد تكاليف الاقتراض وانعكاساته السلبية على خدمة الديون. وحذّر سعيدان الحكومة القادمة من خطورة تفاقم مستوى الدين العام والذي سيبلغ 89 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي بنهاية العام المقبل، بينما سيفوق الدين الخارجي 100 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، ما سيضاعف حجم الصعوبات. وتتعلق بقية الملفات الحارقة التي يعتبرها عاجلة ولا تنتظر التأخير في معالجتها، بمسألة السيطرة على التضخم البالغ 6.7 بالمئة والمزيد من التحكم في عجز الميزان التجاري الذي بلغ نحو 5 مليارات دولار في الأشهر التسعة الأولى من 2019، إلى جانب العمل على التحكم في نفقات الدولة. ويشدّد كثيرون على نقطة التشخيص الحقيقي والموضوعي للأوضاع الاقتصادية والدخول مباشرة في برنامج إصلاح هيكلي يدوم عاما ونصف العام ثم الشروع الفعلي في إنجاز الإصلاحات الكبرى التي تستغرق قرابة أربعة أعوام. وبين أستاذ الاقتصاد، عبدالرحمن اللاحقة أن التحديات الاقتصادية لم تتغير وسترافق الحكومة القادمة التي يتعين عليها الحسم فيها بصفة جذرية. وقال لوكالة وات “يجب أن تكون الإصلاحات الاقتصادية جدية وتؤخذ مرة واحدة بقرار شجاع وقوي”. وفسر في هذا الإطار، أن الحكومات السابقة شرعت في سنّ حزمة من الإصلاحات لكن سرعان ما توقفت عن تنفيذها بسبب تراخيها في معالجة الأمر. وأوضح أن إعادة تحفيز النشاط الاقتصادي من أهم أولويات الحكومة القادمة، مشيرا إلى أنه حتى اليوم لم يتمكن أحد من إيجاد “الوصفة لدفع الأنشطة التجارية على الوجه الأكمل خلال السنوات الأخيرة”. وتطرّق اللاحقة إلى تدني الخدمات حيث التراجع اللافت للخدمات الصحية والتعليم والنقل والتي ستكون تحدّيا هاما للحكومة القادمة. كما أكد أن الإصلاحات الضريبية ستكون من الملفات المطروحة على طاولة رئيس الحكومة القادم وذلك من منطلق أن هذا الإصلاح لم يتم حتى الآن. واعتبر أنه من الضروري إعادة الأمل للجهات الداخلية لاسيما المناطق المحرومة والمهمّشة بالتسريع في نسق إنجاز مشاريع البنية التحتية. وشهدت تونس منذ العام 2014 العديد من الإضرابات والاعتصامات شلّت عددا من القطاعات الحيوية على غرار قطاع الفوسفات. ويرى أستاذ الاقتصاد بالجامعة التونسية رضا الشكندالي أن الحكومة المقبلة عليها طرح مبادرات جديدة تصل إلى مستوى النضج الاقتصادي حتى ترفع من منسوب النمو الذي سجل مستويات منخفضة لم ترتق إلى حجم التطلعات ولاسيما مكافحة البطالة التي بقيت عند مستوى 15.3 بالمئة. وقال إن “الحكومة القادمة ستعترضها تعقيدات المفاوضات مع صندوق النقد الدولي حيث ينتهي اتفاق الصندوق الممدّد في شهر أبريل المقبل”. وأوضح أن الحكومة الحالية لم تتمكن من الوصول إلى أي من هذه الأهداف المضمّنة في هذا الاتفاق ممّا سيرفع من سقف شروط الصندوق في المفاوضات القادمة وهو “ما يتطلب برنامجا حكوميا في غاية الوضوح والواقعية”. وينتظر كذلك من الحكومة القادمة أن تنكبّ على ملفّين يعتبران الشعار الأبرز في انتخابات 2019 وهما مكافحة الفساد وتكريس دولة القانون ويعتبر الخبراء أن الخسائر المالية الكبيرة التي تسجلها معظم مؤسسات القطاع العام لم تكن إلا نتيجة لسوء الحوكمة وتفشي ظاهرة الفساد فيها. ولدى الأوساط الاقتصادية قناعة بأن تلكؤ الدولة في تنفيذ القوانين من أهم الأسباب التي عطلت الإنتاج في أغلب القطاعات ما عدا السياحة. كما أسهم ذلك التقاعس في تراجع إنتاجية العمل في المؤسسات الحكومية مع تنامي ظاهرة الاحتكار والتلاعب بالأسعار وتضخم حجم الاقتصاد الموازي. ويتوقع صندوق النقد نمو الاقتصاد التونسي بنحو 1.5 بالمئة بنهاية هذا العام وهو أقل من توقعات الحكومة والبالغة 3.1 بالمئة رغم الحصاد الزراعي القياسي والموسم السياحي الاستثنائي. والأرقام التي يرجحها الصندوق هي نفسها التي ساقتها وكالة موديز للتصنيف الائتماني على أن يتسارع النمو في الناتج المحلي الإجمالي ليبلغ مستوى 2.4 بالمئة بنهاية العام المقبل. لكن الوكالة اعتبرت هذا النمو غير كاف لخفض البطالة “بصورة كبيرة”، وأن السلطات مطالبة بتنفيذ البرنامج المتفق عليه مع صندوق النقد. وقالت موديز في مذكرة نشرتها الثلاثاء الماضي إن تلك الخطة “أمر ضروري حتى تتمكن الحكومة من تلبية احتياجاتها التمويلية بمعدلات مقبولة، مع الحفاظ على استقرار مستوى الدين العام والخارجي وصولا في نهاية الأمر إلى تخفيضه”. كما لفتت إلى أن الشعور بالإحباط بين الناخبين الشباب “وضعف آفاق الاقتصاد التونسي بعد سنوات من الصعوبات وتراجع القوة الشرائية” سيجعل من الصعب على الحكومة تنفيذ البرنامج الاقتصادي الذي أطلقته في عام 2016.
مشاركة :