حرية التعبير في العصور الكلاسيكية الإسلامية - يوسف بن عبد العزيز أبا الخيل

  • 10/14/2015
  • 00:00
  • 11
  • 0
  • 0
news-picture

أسلافنا الأباعد كانوا يتعاملون مع «علوم الأوائل» بما تحتويه من نظريات علمية وفلسفية بدون عُقد أو إحساس بالذنب، نتيجة مخالفتها لظواهر بعض النصوص. كنتُ قد تحدثت في الجزء الأول من هذا المقال عما يمكن أن نسميه "ارتفاع هامش حرية التعبير في عصور الإسلام الزاهية"، تلك العصور التي كانت لا تقتصر على الاحتفاء بالمخالف من داخل الدين الإسلامي فحسب، بل كانت تحتفي حتى بالمخالف من خارج الدين الإسلامي، فأتاحت له مستوى مرتفعا من حرية تعبير وصلت إلى درجة أن يُسمح فيها لمسيحي يعقوبي أن يؤلف مؤلفات يدافع فيها عن ديانته، وسط مجتمع إسلامي خالص، فلا يثير ذلك حينها أية مشكلات، سياسية كانت أم اجتماعية. واليوم أعود إلى الحديث عن جانب من حرية التعبير الكلاسيكية الإسلامية، وهو عن كيفية تعاملها مع المخالفين في أمر مقطوع شرعا بوجوده، ألا وهو وجود الجن والشياطين، ووسوستهم لبني آدم! تعرض فخر الدين الرازي (توفي سنة 606ه)، الذي كان عالما طبيعيا، ورياضيا وطبيبا، إلى جانب كونه متكلما وفقيها ومفسرا للقرآن، لذانك الأمرين، وذلك في تفسيره المعروف (مفاتيح الغيب). فيما يتعلق بوجود الشياطين وقدرتهم على الوسوسة لبني آدم، فهي وإن كانت مسألة حسمها القرآن الكريم بالإثبات، إلا أن ذلك لم يمنع الرازي من بسط ذكر أقوال المنكرين لها، جنبا إلى جنب مع أقوال المثبتين. وحين استعرض أقوال النافين لها، عرض للمسألة من زاوية علمية وفلسفية وتأويلية بحتة. فنجده يورد أقوال النافين لوسوسة الشياطين، ثم يعرض حججهم من الناحية العلمية، المعتمدة في غالبها على طبيعيات أرسطو، بقوله: "إذا عرفت هذا فاعلم أن نفاة الشيطان، ونفاة الوسوسة قالوا: ثبت أن المصدر القريب للأفعال الحيوانية (أي الإنسانية)، هو هذه القوى المذكورة في العضلات والأوتار، فثبت أن تلك القوى لا تصير مصادر للفعل والترك، إلا عند انضمام الميل والإرادة إليهما، وثبت أن تلك الإرادة من لوازم حصول الشعور بكون ذلك الشيء لذيذاً أو مؤلما. وثبت أن حصول ذلك الشعور لا بد وأن يكون بخلق الله تعالى ابتداء، أو بواسطة مراتب، شأن كل واحدة منها في استلزام ما بعدها على الوجه الذي قررناه. وثبت أن كل واحد من هذه المراتب تَرتَّب على ما قبله، أو لزم لزوماً ذاتياً واجبا. فإنه إذا أحس بالشيء وعرف كونه ملائماً مال طبعه إليه، وإذا مال طبعه إليه تحركت القوة إلى الطلب، فإذا حصلت هذه المراتب حصل الفعل لا محالة. فلو قدرنا شيطاناً من الخارج (أي لو افترضنا وجود الشيطان)، وفرضنا أنه حصلت منه وسوسة، كانت تلك الوسوسة عديمة الأثر، لأنه إذا حصلت تلك المراتب المذكورة، حصل الفعل، سواء وُجِدَ هذا الشيطان أو لم يوجد. وإن لم يحصل مجموع تلك المراتب، امتنع حصول الفعل، سواء وجد هذا الشيطان أو لم يوجد. فعلمنا أن القول بوجود الشيطان وبوجود الوسوسة قول باطل". أي أنه باطل من وجهة نظر من ينفونه وفق رؤية علمية بحتة. ولا يكتفي الرازي بإيراد الحجج العلمية للنفاة، بل إنه هنا يلجأ إلى سلاح المنطق العلمي البحت عند مواجهة النصوص التي يؤكد ظاهرها وجود الشياطين ووساوسهم، كما في الحديثين المنسوبين للنبي صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، ألا فضيقوا مجاريه بالجوع". وكذلك:" لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السموات"، بقوله: "هذه الأخبار لا بد من تأويلها، لأنه يمتنع حملها على ظواهرها لعدة أسباب، منها: أنه يلزم منه، إما اتساع تلك المجاري، أو تداخل تلك الأجسام. ومنها أن الشيطان مخلوق من نار، وبالتالي فلو دخل في البدن لصار كأنه أنفذ النار إلى داخل البدن، ومعلوم أن الإنسان لا يحس بذلك:(حرارة النار). ثم إنهم (أي الشياطين) يحبون المعاصي وأنواع الكفر والفسق، ونحن نتضرع بأعظم الوجوه إليهم ليظهروا أنواع الفسق فلا نجد منه أثراً ولا فائدة. وبالجملة، فلا نرى من عداوتهم ولا من صداقتهم نفعا". والجدير بالذكر أن هذه التعليلات "العلمية" التي يسوقها الرازي على لسان نفاة الشياطين ووسوستهم، مأخوذة، باستثناء ما ورد من تدخل الشيطان، وما ورد في المسألة من نصوص قرآنية أو حديثية، كما يقول الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه: (فهم القرآن الكريم)، من شروح الفارابي وابن سينا على نظرية النفس عند كل من أفلاطون وأرسطو. وبالتالي فالأساس "العلمي" لما ذكره الرازي هنا، وفقاً للجابري أيضا، هو علم النفس الأرسطي. ومن المعلوم أن كلاً من العلم والفلسفة اليونانيين كانا يشكلان ما يطلق عليه سلفنا حينها (علوم الأوائل). وكان العلماء والمؤلفون والمفسرون في تلك العصور الكلاسيكية العربية يغرفون منها ويناقشون مضامينها دون أدنى حساسية من مخالفتها لما ورد في القرآن الكريم، أو لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهو ما جعل الرازي لا يتحرج في أن يورد، على خلفية تفسيره لآيات قرآنية تثبت مسألة وجود الشياطين ووسوستهم، آراء تنفي وجودهم ناهيك عن وسوستهم، لا عن إيمان بها، وإنما انطلاقا من إيمانه بحرية التعبير من جهة، وبإيمانه بأن القرآن الكريم، والإسلام على العموم، لا يضيرهما التعامل مع المخالفين لهما، فهما راسخان رسوخ الجبال. بل إنه لا يكتفي بإيراد ذلك الرأي النافي للشياطين ووسوستهم فحسب، بل إنه يعضده بالآراء العلمية والفلسفية والمنطقية التي تؤيده. ولو أن الرازي وُجِدَ في زمننا هذا لطالته فتاوى الردة عن الإسلام، ومطالبة الإمام باستتابته وقتله مرتدا، فالله المستعان. أما فيما يتعلق بمسألة وجود الجن، فلقد استعرض الرازي عند تفسيره لسورة الجن عدة آراء مختلفة في المسألة، منها ما ينفي وجود الجن بتاتا. ومما قاله في المسألة ما يلي: "اختلف الناس قديما وحديثا في ثبوت الجن ونفيه. فالنقل الظاهر عن أكثر الفلاسفة إنكاره، وذلك لأن أبا علي ابن سينا قال في رسالته في حدود الأشياء: (الجن حيوان هوائي متشكل بأشكال مختلفة)، ثم قال، يعني ابن سينا،: (وهذا شرح للاسم فقط). فقوله: وهذا شرح للاسم، يدل على أن هذا الحد شرح للمراد من هذا اللفظ فقط، وليس لهذه الحقيقة (أي الجن) وجود في الخارج". ها نحن مرة أخرى، نجد نحن الخلف أنفسنا مأخوذين حد الدهشة بمفسر سني يُضمِّن تفسيره لنص قرآني حاسم في مسألة وجود الجن، جملة من الآراء الفلسفية والعلمية التي تنفي وجودهم (أي الجن)، من الأساس!. والخلاصة أن أسلافنا الأباعد كانوا يتعاملون مع "علوم الأوائل" بما تحتويه من نظريات علمية وفلسفية بدون عُقد أو إحساس بالذنب، نتيجة مخالفتها لظواهر بعض النصوص. كما كانوا يناقشون مضامينها بالاعتماد على النظريات العلمية والفلسفية والمنطقية التي يوفرها عصرهم. بل إن حرية التعبير وصلت في تلك العصور الزاهية للحضارة العربية الإسلامية إلى درجة أن المثقفين من الطوائف الدينية المختلفة، خاصة من اليهود والمسيحيين والمسلمين، كانوا يعقدون مجالس للمناظرات والمناقشات العلمية، خاصة في الأندلس، فيشترط بعضهم على بعض عدم الاستشهاد بالنصوص الدينية، والاكتفاء بالمحاجات العلمية والفلسفية والمنطقية فقط، فيقبل بعضهم من بعض، دون أن تثير مثل تلك الاشتراطات أي ردود فعل سلبية، لا من المثقفين ولا من العامة!. والسؤال: لماذا خلف من بعد أولئك السلف خلف يخافون أن تنقض عرى الإسلام بسبب مقالة في صحيفة سيارة، أو كتاب أو رواية في زاوية من زوايا مكتبة أو معرض كتاب؟ وأظن أن الجواب في جانب منه على الأقل هو: خلو مناهج ومقررات التعليم من التعامل مع الآراء والرؤى المخالفة على أنها معطى وجودي دائم ما دامت السموات والأرض. ولله الأمر من قبل ومن بعد. لمراسلة الكاتب: yabalkheil@alriyadh.net

مشاركة :