إلى وقت قريب كان العالم ينظر إلى كيفية تجاوز إسبانيا لفترة الجنرال فرانكو على أنه نموذج يحتذى به في كيفية نجاح المجتمعات في التعامل مع إرثها الدموي واعتباره ماضيا طويت صفحته. لكن، مؤخرا أطل هذا الماضي برأسه من جديد في اهتمام لافت ومقلق ضمن موجة تطرف يميني عالمية تستمد شعاراتها من ماضي الدكتاتوريات، وتستحضر أرواح هتلر وموسوليني وفرانكو. عاد شبح الجنرال فرانشيسكو فرانكو مؤخرا إلى دائرة الاهتمام، بعد أن تحول ضريحه في غمرة الموجة الأخيرة إلى مزار يرتاده أتباع اليمين المتطرف، وهو أمر لم يرحب به الكثير من الإسبان. ودفع الحكومة الإسبانية إلى اتخاذ قرار استخراج جثة الدكتاتور الإسباني من ضريحه بمقبرة وادي الشهداء، ونقله إلى موقع آخر. تحقق هذه العملية رغبة غرست في نفوس الكثيرين في إسبانيا لعقود، إذ اعتبروا ضريح فرانكو إهانة لضحاياه ولمكانة إسبانيا كدولة ديمقراطية حديثة. واعتبرها كثيرون تصفية حساب قديم مع الدكتاتور الإسباني. لكن، يرى متابعون أن هذه الصفحة لن تطوى، خاصة مع توقيتها الذي جاء قبل أسابيع من الانتخابات العامة التي ستجري في 10 نوفمبر، والتي ستتنافس فيها الأحزاب اليسارية واليمينية الإسبانية. وكان رئيس الوزراء الإسباني الاشتراكي بيدرو سانشيز جعل من نقل الجثمان المحنّط أولوية منذ وصوله إلى السلطة في يونيو 2018 حتى لا يبقى هذا الضريح الذي لا مثيل له في الدول الأخرى في أوروبا الغربية مكانا “لتمجيد” أنصار فرانكو. وقال سانشيز إنه “انتصار كبير للكرامة والذاكرة والعدالة والتعويض، أي للديمقراطية الإسبانية”. من هو الجنرال فرانكو حكم الجنرال فرانشيسكو فرانكو إسبانيا في فترة امتدت بين 1939 و1975، بعد أن قاد انقلابا عسكريا ضد حكومة كانت تتكون من الديمقراطيين والاشتراكيين في سنة 1936. ومثّل تحركه خطوة بدأت حربا أهلية دامت ثلاث سنوات. نظرا إلى معتقداته الكاثوليكية المتشددة، نظر الجنرال فرانكو إلى الحرب والدكتاتورية التي تلت انقلابه على أنها حملة صليبية ضد الميول الأناركية واليسارية والعلمانية في إسبانيا. وضمَن حكمه الاستبدادي والكنيسة الكاثوليكية المحافظة عزل إسبانيا عن التطورات السياسية والصناعية والثقافية في أوروبا لمدة تكاد تصل أربعة عقود. عادت البلاد إلى الديمقراطية بعد ثلاث سنوات من وفاة الدكتاتور الذي كان يحكمها. لكن، يواصل إرثه في التاريخ السياسي الإسباني ومكانته إثارة ضغينة البعض وحنين الآخرين. لمدة طويلة، احتفل الآلاف بذكرى وفاة الجنرال فرانكو في 20 نوفمبر 1975 في ساحة بلازا دي أورينت، الواقعة وسط مدريد وفي ضريحه بوادي الشهداء. وكان فرانكو أمر في 1940 ببناء “وادي الذين سقطوا” لتخليد ذكرى حملته الكاثوليكية ضد الجمهوريين الذين “لا رب لهم”. وقد استغرق بناء الموقع الذي شيّده الآلاف من السجناء السياسيين خصوصا نحو عشرين عاما. وعلى الرغم من تراجع شعبية الدكتاتور، وقف الكثيرون ضد عملية نقل رفاته. وامتد المعارضون من أقارب الجنرال فرانكو إلى الأحزاب اليمينية الرئيسية الثلاثة في إسبانيا، وبعض المنتمين إلى الكنيسة الكاثوليكية الذين أكدوا أن العملية فتحت جروحا سياسية قديمة. لماذا اتخذ القرار اليوم قضت المحكمة العليا الإسبانية بإخراج رفات الجنرال فرانشيسكو فرانكو لدفنه في مكان آخر. وقالت المحكمة إنها قررت رفض الطعن الذي قدّمته أسرة المعني بالأمر. كان هذا القرار ممكنا لوجود بعض التعديلات التي أدخلت على قانون “الذاكرة التاريخية” الذي أقرّته الحكومة الاشتراكية في سنة 2007 والذي يجيز سعي ضحايا فرانكو وأقربائه للحصول على تعويضات لما لحقهم خلال الحرب الأهلية والحكم الاستبدادي. ويصل عدد المتضررين إلى 100 ألف، وتجدر الإشارة إلى دفن بعض الضحايا في قبور لا تحمل علامات وإلى تواجد الآلاف منهم في وادي الشهداء. ويحظر التشريع وجود رفات فرانكو في مكان بتلك الرمزية. لم تستطع إسبانيا اتخاذ هذه الخطوة في السنة الماضية، وأرادت حكومة رئيس الوزراء بيدرو سانشيز الاشتراكية أن تتم العملية قبل الانتخابات التي ستجرى الشهر المقبل، وهي خطوة قالت أحزاب المعارضة إنها مرتبطة بالامتحان السياسي القريب. ووصف حزب “الصوت” اليميني القومي إخراج الجثمان بأنه “تدنيس”. وقالت الزعيمة اليمينية في منطقة مدريد إيزابيل دياز أيوسو “ماذا سيحدث بعد ذلك؟ هل ستحترق أبرشيات الحي كما حدث في 1936؟” سنة اندلاع الحرب الأهلية. وفي حين كانت الصحافة الإسبانية والدولية من الحريصين على حضور عملية استخراج الرفات، أصرّت الحكومة الإسبانية على أن تكون حدثا مغلقا. وتم السماح لـ22 من أفراد أسرة فرانكو، بمن فيهم أحفاده السبعة، بالدخول إلى الضريح. وشهد اثنان منهم عملية استخراج الرفات مع وزيرة العدل الإسبانية دولوريس دلغادو وبعض المسؤولين. أين دفن فرانكو؟ أراد أقارب فرانكو إعادة دفنه في كاتدرائية المدينة وسط مدريد. لكن، أصرّت الحكومة على نقله إلى مقبرة مينجوروبيو أين دفنت زوجته كارمن في تربة العائلة، خشية أن تتحول الكاتدرائية إلى قبلة يرتادها الفاشيون. وتعدّ المقبرة قريبة من قصر آل باردو الذي كان مقرّ إقامة فرانكو الرسمي. وتجمع المقبرة الأكثر تواضعا من وادي الشهداء، الذي يمكن رؤية صليبه على بعد أميال، شخصيات يمينية أخرى مثل رافائيل تروخيو الذي كان دكتاتور جمهورية الدومينيكان قبل اغتياله سنة 1961. كما دفن العديد من الوزراء في عهد الجنرال فرانكو هناك. ما هو التأثير السياسي يمكن أن يعزز استخراج رفات فرانكو شعبية الحزب الاشتراكي، وخاصة في الفترة التي تسبق الانتخابات العامة. لكن العملية تزامنت مع التطورات في صراع منطقة كتالونيا الشمالية الشرقية التي تسعى إلى الانفصال عن إسبانيا. وشهدت المنطقة الحكم على 12 فردا من السياسيين والناشطين السابقين بالسجن، مما أثار الاحتجاجات وأعمال الشغب في برشلونة، المدينة الثانية في إسبانيا والعاصمة الكتالونية. وتم اتهام سانشيز بالتسامح مع الحركة المؤيدة للاستقلال لحشد الدعم البرلماني. وأنعشت القضية الكتالونية واستخراج رفات فرانكو القومية الإسبانية والأحزاب اليمينية مع اقتراب الانتخابات.
مشاركة :