عند بدايات العام 1910 شرع الكاتب الفرنسي شارل بيغي في كتابة نصّه الذي سيصبح واسع الشهرة بعد ذلك عن جان دارك وأعمالها الخيّرة. وإذ كانت كتابة بيغي- المعروف قبل ذلك الحين بتقدميته ونزعته الإشتراكية التي لا تأبه بحكاية جان دارك وكونها البطلة القومية لفرنسا في تبنٍ يميني دائم وصارخ لها- أدهشت الكثر من الذين رأوا في موقفه نوعاً من طلب انتساب للكنيسة الكاثوليكية التي اعتادت أن تبادله عداء بعداء، راحت الكتابات الانتقادية تتوالى منددة به شاجبة موقفه... ولقد ظلت تلك الكتابات تنشر حتى صيف العام 1911 حين نُشر نصٌ شديد القسوة ضد بيغي لم يعلن كاتبه عن اسمه. والأدهى من هذا بالنسبة الى بيغي كان هجوم ذلك النص الساحق لبس على كتابه المدان، بل على أعماله الكاملة التي كانت قد ظهرت في غضون ذلك. وهنا إذ اكتشف بيغي أن صاحب المقال هو شارل فيكتور لانغلوا الأستاذ الاشتراكي في جامعة السوربون الذي كان أصلاً قد اتهمه بأنه إنما كتب نصّه حول جان دارك لممالأة الحزب الكاثوليكي، غضب في شكل لا سابق له هو الذي كان في تلك الأثناء يعيش عيش الكفاف غير قادر على إطعام عائلته. فقرر أن يصفي حسابه معه كما مع الجامعة نفسها ومع عدد من الكتاب والمثقفين الإشتراكيين الذين كانوا سابقاً من أصدقائه. أما المناسبة المباشرة لكل هذا فكانت برامج إصلاح التعليم التي كان أولئك قد اشتغلوا عليها منذ العام 1902 وباتت تطبق تدريجياً حاملة الى فرنسا تعليماً علمانياً يتناقض مع متطلبات التعليم الكاثوليكية. * ضمن إطار هذا المناخ كتب بيغي نصّه «المال» بين كانون الأول (ديسمبر) 1912 ونيسان (أبريل) 1913، ليتبعه في صيف ذلك العام نفسه بنصّ يستكمله عنونه «المال... تابع». ونعرف أن بيغي إنما استعار العنوان من رواية إميل زولا الشهيرة، لكن نصّ بيغي لا علاقة له بالرواية، بل هو نص سجالي حول التعليم الإبتدائي يقف على النقيض تماماً من كل تلك الأشغال السابقة حول ذلك التعليم، ولقد بدا هذا واضحاً منذ العنوان الفرعي للكتاب وهو «التعليم الإبتدائي وكيف يجب أن يكون». > في هذا النصّ ذي الجزءين إذاً، نجد بيغي يتخلى تماماً عن كل ما كان قد نادى به سابقاً من ضرورة أن يحظى التلامذة الفرنسيون بتعليم علمي يدخلهم العصر ويجعل منهم مواطنين صالحين يندمجون في الدولة ويساهمون في تأسيسها، ليطالب بتعليم قائم على مبدأي الدين والأخلاق بالاستناد الى التعاليم الكنسية في شكل أساسي. ومن أجل الوصول الى هذا، على الضد من المبادئ التعليمية التي نهض بيغي للتصدي لها وتقوم أساساً على نزعة إنسانية تتعلق بالإخاء بين الشعوب وعدم التفرقة بين الأديان والأعراق، نجد بيغي في نصّه هذا يطالب باستلهام تاريخ فرنسا والعودة اليه بما يتضمّنه من «حذر» تجاه الآخرين واستعداد دائم للذود عن الوطن... وجعل العائلة مركز الثقل في الحياة الوطنية والكنيسة مسرح تلك الحياة. > لقد كان واضحاً، من خلال مناهضة بيغي لكل المفاهيم التقدمية في مجال التربية والتعليم، هو المفنّد حرفاً حرفاً لكل الإصلاحات التي اشتغل عليها عدد كبير من المصلحين في المجال التربوي وحملت منذ العام 1905 اسم جول فيري الذي لا يزال يشكل حتى اليوم نوعاً من البعبع في وجه كل الرجعيين من أعداء التعليم العلمي والعلماني في فرنسا، كان واضحاً انه هذه المرة يصفي حسابه حتى مع ماضيه الخاص. ولن يتوقف عن ذلك... > ... وحتى تلك اللحظة التي سمع فيها آخر عبارة وُجّهت إليه في حياته: «انبطح أرضاً يا حضرة الملازم... انبطح أرضاً». لكن الملازم لم ينبطح أرضاً، بل ظل واقفاً وهو يحاول مقاومة الأعداء الألمان، حتى أصابته رصاصة في رأسه أردته قتيلاً على الفور. وكان الملازم هو نفسه شارل بيغي. وكان يومها، في العام 1914 في الحادية والأربعين من عمره. ولأن بيغي لم يكن جندياً عادياً، بل كان قبل ذلك كله كاتباً معروفاً، تساءل الكثيرون، بعد مقتله على ذلك النحو، حول الدوافع التي جعلته يستسلم أمام الموت بتلك السهولة. وتذكر هؤلاء أنه في واحدة من أجمل نصوصه «حوار حول تاريخ الروح الوثنية» جعل كلير تقول: «عندما يصل البشر إلى الخمسين من عمرهم، يكونون قد انتهوا». إذاً، هل كان شارل بيغي قد تكهن بنهايته، أم أنه تعمد أن تأتيه على ذلك النحو؟ > سؤال لن يجيب عنه أحد. المهم أن الرصاصات الألمانية أصابت وقتلت في ذلك اليوم واحداً من أكثر الكتّاب الفرنسيين خصوبة وإثارة للسجال. وأكثر من هذا وضعت حداً لتقلبات ذلك الكاتب الذي بدأ حياته اشتراكياً متحمساً لينهيها قومياً متطرفاً، اختار بنفسه أن يخوض الحرب العالمية الأولى لسبب أساسي وهو أنه أراد عبر خوضها أن يثأر من الألمان الذين كان قد سبق لهم أن أذلّوا فرنسا، بلده، مرات عديدة قبل ذلك. واللافت أن ما حرك نزعة شارل بيغي القومية الفرنسية وأبعده كلياً عن أممية الاشتراكيين كان قصف الألمان المغرب في 1905. منذ ذلك الحين تغيّر شارل بيغي وصار انساناً آخر، وتغيرت كتاباته التي، بعد أن كانت انسانية النزعة، سلمية التوجه، أضحت قومية متطرفة تدافع عن الوطن الفرنسي، كما أضحت ذات توجه كاثوليكي لا لبس فيه، حتى وإن كانت الكنيسة نفسها قد ظلت تعارض عودة شارل بيغي إليها بسب ماضيه الاشتراكي ونزعة زوجته اللاإرادية. > ولد شارل بيغي في 1873. وأمضى طفولة فقيرة مضطربة قادته إلى تغيير مكان دراسته مرات عدة، وإلى معاشرة العديد من المناضلين الفوضويين والاشتراكيين، لكنه حتى حين صار في صباه اشتراكياً، كان يقول عن نفسه ان اشتراكيته تقترب من اشتراكية القديس فرانسوا الاسيزي أكثر مما تقترب من اشتراكية كارل ماركس. وحين صار اشتراكياً، بدأ يخوض المعارك كافة، إلى جانب ليون بلوم وجان جوريس، لا سيما معركة قضية درايفوس التي كانت محك التقدمية والرجعية في فرنسا تلك الأيام. غير أن تلك القضية نفسها، التي أثارته، كانت هي التي عادت وأبعدته عن الاشتراكيين لا سيما عن جان جوريس، وكان ذلك على أي حال في وقت كان بيغي قد بدأ يكتب بعض المسرحيات والنصوص الروائية والتاريخية، وفي مقدمها أطروحته التاريخية الكبرى «جان دارك»، وهو النص نفسه الذي سيعود إلى كتابته بعد ذلك بسنوات عديدة. فإذا بجان داركه الأولى التي كانت اشتراكية النزعة تناضل من أجل الفقراء والبائسين، تصبح كاثوليكية متطرفة في قوميتها... كما هي حال شارل بيغي نفسه! > إذاً في 1905، مع ضربات المدافع الألمانية في طنجة، تغير شارل بيغي ذلك التغيير الجذري وأضحى «قومجيّاً» فرنسياً من طراز أول. استعاد وطنه واستعاد معه نوعاً من الكتابة المتطرفة التي سيعتبرها النقاد والمؤرخون لاحقاً الرحم الشرعي لكتابات كتّاب يمينيين من أمثال شارل مورّاس ودريو لاروشيل، مع فارق أساسي وهو أن وطنية شارل بيغي توجهت ضد الألمان، بينما كانت نزعة مورّاس وأمثاله الوطنية ممالئة للألمان معادية لكل ما هو اشتراكي. > كما أسلفنا، في 1910 فاجأ بيغي الأوساط الأدبية بنصه الشهير الجديد عن جان دارك عنوانه «سرّ إحسان جان دارك» وكان أول عمل له يكتبه بعد عودته إلى الإيمان الكاثوليكي. وهو اتبعه بأعمال أخرى اتسمت دائماً بطابع إيماني عميق. وفي 1913 نشر روايته الأساسية «إيف» (حواء) فاعتبر عبر ذلك كله الكاتب الذي وصل إلى رسم ذروة العمل الشعري المسيحي الفرنسي، كما سيفعل من بعده برنانوس وكلوديل. غير أن أعمال بيغي الشعرية إنما كتبت - كما يقول كاتب سيرته ميشال مور - على هامش كتاباته السياسية التي أراد منها، منذ أواسط عشريات هذا القرن وحتى النص الأخير الذي نشر خلال حياته «المال» في قسميه، ثم عبر النص الذي نشر لاحقاً «كليو» (1917) أن تعبر عن معركته السياسية التي راح يخوضها ضد رفاقه الاشتراكيين السابقين، ومن ناحية ثانية ضد الألمان. وكانت معركته مع هؤلاء من العنف بحيث أنه ما إن أندلعت الحرب العالمية الأولى حتى خاضها متطوعاً، فقتلته رصاصة ألمانية وهو واقف وكانت الحرب لا تزال في أولها.
مشاركة :