يشيع بعض الكتّاب في الدول الغربية وفي وطننا العربي، أن المثقف قد تآكل دوره ولم يعد فاعلاً أو مؤثرًا في مجتمعه كما كان سابقا، لكننا نرى الثقافة تزدهر في كل البلدان، وإن كان ازدهارها يتم بدرجات متفاوته، لكن منسوب الثقافة يزداد في العالم، والتطور التكنولوجي السريع فتح مجالاً رحبًا للثقافة لتزدهر، وللمثقفين ليمارسوا دورهم التنويري في المجتمع. فكيف تزدهر الثقافة وينتهي دور المثقفين، الذين هم منتجو هذه الثقافة؟ ومن الثابت أن حقول الثقافة قد توسعت في العصر الحديث، بدأ بالفلسفة والفكر والأدب، وإنتهاء بالعلوم الإنسانية، وهناك تخصصات جديدة لم تظهر في الثقافة إلا في العصر الحديث. وهناك ازدهار آخر للمؤسسات الثقافية المتخصصة، ومراكز البحوث والجامعات، والإعلام. وهذه الحقول مجتمعة تشهد ازدهارًا واسعًا في العالم، لم يطرأ من قبل، فكيف نقول إن دور المثقفين قد تقلص، مع بروز ونمو كل هذه المؤسسات الثقافية. وهل أن المجتمعات ليست في حاجة إلى المثقفين بالفعل؟ لنحاول سبر هذه المسألة التي تطرأ بين آونةٍ وأخرى في الأوساط الثقافية العربية. وكما أعتقد فهذا الرأي، رهين أعراض سلبية تظهر في بعض أجزاء الجسد الثقافي الكبير والمتشعب، ثم يسحبها البعض على المثقفين جميعهم. وهذه المغالاة ليست جديدة، فقد شهدناها سابقا، وهي لا زالت ساخنة حتى هذه اللحظة. وأذكر أن المفكر اللبناني علي حرب كتب في هذا الإتجاه قبل عقدين، محملاً المثقفين أوزارًا لا تخصهم، وأعباءً هي ليست من مسؤوليتهم هم فقط. واستساق هذا الرأي مثقفون آخرون غير علي حرب، وبنوا على منوالها. وكما أعتقد أن تحميل المثقفين وزر التخلف واتهامهم بالانعزال عن المجتمع (كما يزعم القائلون بهذا الرأي)، هو رد فعلٍ لنظرة مثالية سادت في مجتمعاتنا العربية في الستينات والسبعينات من القرن العشرين، كانت تزعم أن المثقفين قد تخلوا عن مسؤوليتهم التاريخية وركنوا في أبراجهم العاجية، فهل هذا صحيح؟ ثم لماذا نُحمِّل المثقفين وحدهم عبء تغييرالمجتمعات؟ صحيح أن المثقفين يشكلون القاعدة الفكرية للتغيير، وأنهم أسسوا لثورات كثيرة، في بلدان كثيرة، كالثورة الفرنسية في فرنسا، والثورة البلشفية في روسيا، وفي القارة الأوروبية، ونكاد أن نرى تأثيرهم في ثورات آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية ولكن، حراك التغيير يعتمد على المجتمعات، وصناعة التاريخ في الأساس تعتمد بالدرجة الأولى على الجماهير. ولتفسير هذا اللبس نقول، إن تقدم المجتمعات يرضخ، لعوامل كثيرة معقدة. وفي الحالة العربية نلاحظ، أن مجتمعاتنا ترضخ لثقافة تقليدية راسخة، عمرها ثمانية قرون. لذلك كان انزياح المجتمعات العربية في اتجاه الأصولية الدينية سريعًا وواسعًا، بدأ من العقد الثامن من القرن الماضي، وهذا الانزياح الذي أعادنا إلى الخلف عدة عقود، هو الذي أخمد جذوة الثقافة والمثقفين التي كانت قد شهدت تطورات واعدة، وحضور ملحوض في الخمسينات والستينات من القرن الماضي وحتى السبعينات، وبالتالي فالمثقفون بدءًا من الثمانينات شُلّت أطرافهم، بسبب أن الأصولية الدينية، أدركت أن الثقافة هي العدوة الرئيسية لهم، فالثقافة كانت (في تلك الفترة) تسعى لتحديث المجتمعات وتطويرها، فيما كانت الأصولية تجرنا إلى الخلف. ومع المد الأصولي الكاسح الذي استجابت له الجماهير، وجد المثقفون أنفسهم مبعدين قسرًا عن الساحة، حيث انفض الناس عنهم، وتقلصت الثقافة والفعاليات الثقافية، وأقتيد المثقفون والكتّاب إلى المحاكم، في بلدان عربية متعددة.
مشاركة :