يعتقد المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي الذي يستشهد به الكثيرون في المجال الثقافي، إن التغيير في المجتمعات، يجب أن تسبقه ثقافة التغيير لتمهد له الطريق. بالتأكيد فثقافة التغيير، ستدخل في صراع مرير مع الثقافة السائدة التي تستحوذ على تفكير الغالبية العظمى في المجتمع. ويؤكد غرامشي أن التغيير لا يحدث إلا إذا وجد قبولاً تامًا في المجتمع، وإذا كان يقدم مشروعًا إصلاحيًا أفضل مما هو قائم. وإقناع الناس بضرورة التغيير هو أمر يستلزم منازلة الثقافة السائدة، وكشف عيوبها، وتبعاتها، ذلك يعني تزويد المجتمع بثقافة التغيير الجديدة عليه. فالمجتمع هو القوة الدافعة للتغيير، ومتى ما كان المجتمع غير مقتنع بالتغيير، أو غير قابل للتغيير فستجد القوى التقدمية رفضًا ومقاومة وإبعادًا ينتهي بالهزيمة. وإن جاء التغيير قسريًا، كما هو الحال في الانقلابات العسكرية التي انتشرت في الخمسينات والستينات من القرن الماضي في البلاد العربية، فلن يسعه الاستمرار والثبات والنجاح وإن ادعى الإصلاح والتقدم، وسيكون في هذه الحالة تغييرًا شكليًا أو فوقيًا، يمس القشور، وعادة ما تكون المجتمعات التقليدية مبنية على ثقافة تقليدية بدورها. فكل سلطة حاكمة تروج لثقافتها، وتكرس بقاءها أطول فترة ممكنة، وهي في ذلك لا تعتمد فقط على القوة العسكرية للدولة، وإنما على ثقافة تبرر أفعالها، وتعزز وجودها، من خلال المدارس والجامعات، وإعلام الدولة الرسمي ومؤسساتها، التي غالبًا ما تركز على إنجازات الدولة، متجاهلة سلبياتها وأخطاءها. وتدخل ثقافة التغيير التي يدعو إليها المثقفون عبر تواجدهم في مؤسسات عديدة من المجتمع المدني، في صراع غير متكافئ مع السلطة التقليدية المهيمنة، التي تمتلك قدرات ووسائل متعددة، لتجريف وتحريف الوعي العام ونشر الثقافة التي تخدم أغراضها، وتحقق أهدافها، وهي أهداف مصلحية، بالدرجة الأولى، لطبقة أو فئة معينة. وكما هو الحال دائمًا بين القديم الراحل والجديد القادم، يدور صراع طويل الأمد بين القوى الجديدة الحية، والقوى القديمة التي انتهت صلاحيتها التاريخية، بحكم التطور الذي هو سنة الحياة على الأرض. ولا تنمو الثقافة المتقدمة، ثقافة التغيير، في بيئة شديدة التشبث بالقديم، كالبيئة العربية، فهي تحتاج إلى درجة من الانفتاح الحضاري، لذلك، يصبح تأثير قوى التغيير محدودًا خصوصًا في ظل الدكتاتوريات التي تحاصر الثقافة الجديدة والمثقفين، وعلى العكس من ذلك، تنشط ثقافة التغيير وينشط المثقفون مع الانفتاح والحرية وإن كانت نسبية. لذلك نشط المثقفون العرب، ومنتجو الثقافة الجديدة، في العقدين الأخيرين، مع الاتساع النسبي في الحريات، والانحسار النسبي في الفكر الأصولي الذي يقف مضادًا للثقافة العصرية المتقدمة. إذن فانحسار نشاط المثقفين الذي حدث في البلاد العربية في العقود الماضية، جاء لأسباب موضوعية تاريخية، ضاربة بعمق في هذه المجتمعات، لا بسبب انعزال المثقفين، وانسحابهم من ساحة الصراع والمواجهة كما يزعم البعض. وليس من المنطق أن نُحَمل المثقفين حمولات لها أسباب موضوعية راسخة توارثتها الأجيال منذ قرون سحيقة. وأعتقد أن هناك خللاً في الرأي الذي يؤكد أن المثقفين العرب في العقود الأخيرة، لم يحملوا مسؤوليتهم التاريخية، وانفصلوا عن المجتمع وانعزلوا في أبراج عاجية رفيعة. بالتأكيد هناك أسباب دفعت هذا الرأي إلى السقف والواجهة. وأحد أسبابه، انتشار ظاهرة المثقف المأجور أو المثقف المستلب والمدجن، فمن هو هذا المثقف الجديد الذي أفرزته ظروف الحضارة الجديدة، ورفعته ظروف العصر؟ ذلك المثقف منتشر وموجود في مواقع كثيرة، ويشمل أطيافًا متعددة. ويكفينا ملاحظة الكم الكبير من المثقفين الذين قبلوا هذا الدور المشين، وارتضوا به، انسياقًا وراء مصلحة ذاتية صرفة. بعض هؤلاء المثقفين، ينتشرون في المحطات الفضائية العربية والصحف، وهم يلتزمون بسياسة المحطة أو الجريدة، أو يعملون في مؤسسات السلطة وإعلامها، وقد استحسنت دولاً كثيرة الدخول في هذه اللعبة الإعلامية التي تخدم مصالحها. المثقف المأجور أيضًا قد نجده يعمل في مؤسسات متخصصة، ومؤسسات إعلامية عامة، أو جامعات أو مراكز بحوث، وهؤلاء يتبعون سياسة هذه المؤسسات رسمية كانت أو خاصة. انتشار ظاهرة المثقف المأجور، لا تمس كل المثقفين، كما يؤكد المفكر الفلسطيني إدورد سعيد في مؤلفه (صور المثقف) فهناك بلا شك شرائح مثقفة، لا تقبل هذا الخضوع والاستلاب، وتعمل بنزاهة وضمير.
مشاركة :