رفع الحصانة عنوان معركة تونس مستقبلا ضد الفساد

  • 10/26/2019
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

طوى التونسيون صفحة الانتخابات الرئاسية مع وصول قيس سعيّد للسلطة، وفتحوا صفحة جديدة في ملف الجدل حول النظام البرلماني والحصانة التي يتمتع بها النواب في علاقة بالفائزين في الانتخابات التشريعية. ويبدو أن نتيجة الانتخابات الرئاسية والانقلاب على المنظومة التقليدية أعطت الشارع التونسي جرعة جرأة أكثر للتعبير بحرية عما يريده. والقضية الحدث اليوم هي الجدل الدائر حول دعوة لرفع الحصانة عن النواب، انطلقت كعريضة، مجهولة المصدر، على فيسبوك وتحولت إلى “استفتاء” شعبي غير رسمي، أثار أسئلة كثيرة حول من يقف خلفه ومن يدعمه، وربطه البعض بنتائج الانتخابات وأنها تصفية حسابات بين الأحزاب، خاصة الأحزاب التي خسرت مقاعد هامة على حساب أحزاب صاعدة وشخصيات مستقلة. وتحججت الدعوة التي حملت عنوان “نحي (ألغي) الحصانة الناس الكل كيف كيف (كل الناس سواسية)” بأن هناك شبهات فساد تلاحق النخب السياسية، وكمحاولة لفرض المحاسبة القضائية على كل من ثبت تورطه واستغلاله لصلاحياته الدستورية تحقيقا للعدالة. ونجحت في أن تحصل على متابعة هامة عكست موقف الشارع المنتقد لخطاب السياسيين تحت قبة البرلمان. وتجلى هذا التذمر في المشاركة في الانتخابات التشريعية الأخيرة التي حظيت بنسبة مقاطعة هامة، حيث بلغت نسبة عدم التصويت 58.6 بالمئة ما يشكل تقريبا ضعف هذه النسبة في الانتخابات التشريعية لعام 2014. ويجمع المراقبون على أن هذا الامتناع عن التصويت لا يعكس لامبالاة فقط بل أيضا عقوبة للأحزاب المتنافسة وللعرض السياسي ككل. ومع تشكل برلمان جديد، يستحضر التونسيون شريط ذكريات جلسات البرلمان الصاخبة المثيرة للسخرية والتهكم في أحيان كثيرة، مع رغبة في القطع مع هذه الصورة ورفض تكرارها. وإضافة إلى مشاحنات النواب شهدت جلسات البرلمان السابق غيابا للنواب في فترات عدة، فيما اكتمل نصابهم حين تعلق الأمر بالمصادقة على مشاريع قوانين مهمة ومفصلية على غرار قوانين المالية والاتفاقيات الدولية وحتى في عقد التحالفات السياسية. وستبقى جلسات البرلمان الصاخبة وما تخللها من عراك وشتائم كانت نقلتها وسائل الإعلام المحلية مباشرة على التلفزيون عالقة في ذاكرة التونسيين، وما يدفعهم إلى مواصلة طريق التغيير وتنقية المشهد البرلماني اتساقا مع المشهد السياسي الذي يقوده وافدون جدد من خارج المنظومة القديمة. الحصانة.. حماية لعمل النائب تؤكد دعوات إلغاء الحصانة على اتعاظ الشارع التونسي من تجربة البرلمان المنتهية مهامه التي لم ترتق لتطلعات التونسيين ليس فقط على مستوى الخطاب بل خلال جلسات المصادقة على قوانين مثيرة جدلا، إضافة إلى إخفاقه في تشكيل محكمة دستورية، ما تسبب في حصول أزمات في تأويل فصول الدستور، ومن بينها ما يرتبط بصلاحيات الرئيس ورئيس الحكومة ودور الدين ومدنية الدولة. وتستفيد هذه الدعوات من مناخ التغيير الذي تعيشه تونس بعد فوز قيس سعيّد بالرئاسة والذي حمل نجاحه نفسا ثوريا وانعطافة حقيقية في التجربة الديمقراطية التونسية حسب إجماع المراقبين. ومع تطلعات الشباب وهي الشريحة الأبرز التي دعمت صعود سعيّد، تأتي دعوات رفع الحصانة تتمة لهذا المناخ المنتشي بالديمقراطية، بتشكيل برلمان ينأى بنفسه عن الفساد والحسابات السياسية الضيقة إذ يؤكد الشباب الداعم لهذه المبادرة وبصوت واحد أن النائب لا يجب أن يفلت من العقاب بل يجب أن يخضع للمساءلة. لكن هذه الدعوات تصطدم بتمسك الدستور بالحصانة حماية لعمل النائب. وينص الفصل 68 من الدستور على أنه “لا يمكن إجراء تتبع قضائي مدني أو جزائي ضد عضو بمجلس نواب الشعب أو إيقافه أو محاكمته لأجل آراء أو اقتراحات يبديها أو أعمال يقوم بها في ارتباط بمهامه النيابيّة”. كما ينص الفصل 69 على أنه “إذا اعتصم النائب بالحصانة الجزائية كتابة فإنه لا يمكن تتبعه أو إيقافه طيلة مدة نيابته في تهمة جزائية ما لم ترفع عنه الحصانة، أما في حالة التلبّس بالجريمة فإنه يمكن إيقافه ويُعْلم رئيس المجلس حالا على أن ينتهي الإيقاف إذا طلب مكتب المجلس ذلك”. ورصدت “العرب” آراء بعض نواب البرلمان التونسي من الموالاة أو المعارضة وآراء من الشارع حول دعوات إلغاء الحصانة المثيرة للجدل إن كانوا يؤيدونها أو يرفضوها. ويشير حبيب الخضر القيادي بحركة النهضة لـ”العرب” إلى أن “الحصانة في دستور 2014 وهو دستور الثورة، مختلفة عن الحصانة في دستور 1959 حيث قرر دستور 2014 أن يتعامل مع كل نائب كمواطن عادي وإذا ارتأى إلى أن يفعلها (الحصانة) فلا بد أن يكون ذلك عبر إجراء كتابي وتشمل بشكل خاص التتبعات الجزائية، بمعنى أنه يقع رفع الحصانة بموجب قضايا تلاحق النائب كشبهات الفساد”. ويبدي الخضر تأييده للحصانة باعتبار أن هذا النظام يمكن أن يشكل ضمانة للديمقراطية ويحصن النائب من استهدافه بقضايا مفتعلة بهدف عرقلة دوره، في مقابل ذلك لا يجب أن تسعف النائب باستغلاله الحصانة وهذا من المهام الرقابية الموكلة للبرلمان. ومن جهته، يرى صحبي بن فرج، النائب عن كتلة الائتلاف الوطني، أن دعوات إلغاء الحصانة مجرد منطق شعبوي. ويتابع في حديثه لـ”العرب” بقوله إن الحصانة تمنع السلطة التنفيذية من ممارسة الضغط على النائب، لافتا إلى أنها “دعوات أطلقت في إطار الحرب على الفساد”. وأعرب بن فرج عن رفضه رفع الحصانة لكنه أبدى تأييده للتساهل في آليات رفعها في حال ثبوت تورط نائب بفساد. ويقول “لا أمانع في تسهيل إجراءات رفعها وألا تكون في الغرف المغلقة”. ويتسق رأي بن فرج مع رأي خالد شوكات، المدير التنفيذي لحركة نداء تونس. ويعتقد شوكات أن دعوات إلغاء الحصانة مجرد مزايدات لا أكثر وشعبوية لا معنى لها.. ويشرح بقوله لـ”العرب” “الحصانة البرلمانية حصانة محدودة وتتقيد بعمله داخل البرلمان وبسن التشريعات التي هي في صلب مهامه، فهي ليست حصانة مطلقة حتى يحتمي أصحابها من الجنح والجرائم”. وتابع موضحا “يجب أن ندرك أنه حين يتعلق الأمر بجريمة فساد فهذه الجريمة لا تحميها الحصانة إنما يؤجل البت فيها، حتى لو اشتغل بطريقة خاطئة ومشكوك فيها داخل البرلمان لن يحجب ذلك محاسبته ومساءلته”. ويرى شوكات أن هذه الدعوات تنم عن سوء فهم للحصانة من ناحية قانونية وخطوة شعبوية لدى البعض وهي تشكل خطرا ضمنيا على المسار الديمقراطي، وهو ما يجعله رافضا لها. أما زهير المغزاوي، أمين عام حركة الشعب، فيؤكد أن الحصانة تمنح النائب حق النقد بحرية وتحفزه على القيام بدوره ومهامه والاهتمام بمطالب شعبه. ويستدرك في تصريح لـ”العرب” “غير أن هذا لا يعني أنه يجب أن نفعلها في حال وجود قضايا فساد وأن يحتمي بها كل نائب ثبت تورطه”. وبدوره يوضح غازي الشواشي، القيادي بحزب التيار الديمقراطي، لـ”العرب” أن “الحصانة في تونس مدسترة بمعنى أنها موجودة في الدستور ويتمتع بها رئيس الدولة وأعضاء البرلمان والقضاة وأعضاء الهيئات الدستورية والغاية منها حماية الشخص المعني للقيام بمهامه الموكلة إليه دون ضغوط أو تهديدات”. ويلفت إلى أن “الحصانة هي وظيفية بمعنى أنه إذا رفعت عن نائب فلن يستطيع القيام بمهامه”، لذلك يؤيد الشواشي إبقاء الحصانة الوظيفية أي التي تحمي عمله داخل البرلمان في حين يرفض أن يتمتع بها النائب خارج عمله كما لا تشمل تصرفاته الخاصة خارج إطار البرلمان. ويعتقد أن المعارضة دون حصانة لن تستطيع القيام بدورها كما يجب ولا يعني هذا أنها بمنأى عن المتابعة والمساءلة، مبيّنا أن رفع الحصانة يستوجب ضمنيا تعديل أو تغيير الدستور. لا إفلات من العقاب تكشف صفحات فيسبوك التي تحمل عناوين مثل “الشعب يريد رفع الحصانة” أو “حملة شعبية لإلغاء الحصانة البرلمانية” والتي تلاقي تجاوبا مع رواد مواقع التواصل الاجتماعي، إجماعا شعبيا على ضرورة خضوع النائب للمساءلة حتى لا يحتمي بالحصانة للإفلات من العقاب. ويثير الفساد مخاوف التونسيين مع طرح نواب من البرلمان الحالي المنتهية ولايته أنفسهم مجددا على الناخبين ليمثلوهم في المجلس النيابي. ويبلغ عدد هؤلاء 119 نائبا من ضمنهم نسبة هامة يلاحقون في قضايا ويسعون لتجديد الحصانة البرلمانية توجسا من تتبعات عدلية قد تنتهي بهم داخل السجن. وتعرب زهيرة شريط (موظفة تونسية) في تصريح لـ”العرب” عن تأييدها لرفع الحصانة لنواب البرلمان في ظل استشراء ظاهرة الفساد. من جهته يؤكد وسام (28 عاما) وهو ناشط حقوقي ومرشح سابق ضمن قائمة مستقلة عن دائرته ببن عروس في الانتخابات التشريعية الأخيرة تأييده لرفع الحصانة. ويضيف لـ”العرب” “أؤيد رفع الحصانة كما أؤيد تغيير شروطها وأيضا امتيازات أخرى يتمتع بها النواب يجب النظر فيها ولم لا مراجعتها”. ويرى وسام أنه من الضروري أن يصرح النائب بممتلكاته قبل دخوله للعمل بالبرلمان وأن يخضع للمراقبة كما يجب أن يقع الحد من ظاهرة السياحة الحزبية حفاظا على مصداقية البرلمان. وبدورهم أبدى بعض السياسيين عدم ممانعتهم التخلي عن الحصانة وهم من الوافدين الجدد على البرلمان، على غرار النائبين في حزب “تحيا تونس” مروان فلفال وعياش زمال والنائب مبروك الخشناوي الذين اختاروا طوعا التخلي عنها. ويبيّن حسان قبي، أستاذ وباحث في الاقتصاد السياسي في الجامعات الفرنسية، في حديث لـ”العرب” أن “الأمر الطبيعي في كل برلمانات العالم أن يتمتع كل نائب في إطار عمله بالحصانة، لكن الحصانة مع ارتفاع ظاهرة الفساد في الطبقة السياسية يجب رفعها حتى لا يحتمي بها وحتى نتمكن من تفعيل مبدأ المساواة للجميع أمام القانون”. ويعلق “من غير المعقول مع ارتفاع نسب الفساد أن تبقى الطبقة السياسية في حالة إفلات من العقاب لسبب بسيط أنها تتمتع بحصانة برلمانية”. وفي خضم مشاورات تشكيل الحكومة لم تغفل بعض الكتل الوازنة ومن ضمنها حركة النهضة صاحبة الكتلة الأولى عن مطلب رفع الحصانة. وقال القيادي في حركة النهضة عبداللطيف المكي في تصريحات لوسائل إعلام محلية إن على الأحزاب التي ستشكل الحكومة أن تتعاقد على ضرورة التصويت الفوري على رفع الحصانة في مكتب المجلس والجلسة العامة عن كل نائب تعلقت به شبهة فساد. ويرى متابعون أن تأييد بعض الأحزاب لرفع الحصانة هدفه التماشي مع الرغبة الشعبية الرافضة لاستقواء النواب بالحصانة وتأييدا لجهود مكافحة الفساد، في ظل مناخ سياسي جديد انتصرت فيه إرادة الشارع وصناديق الاقتراع على ماكينات الأحزاب التقليدية ما عزز قوة وصوت الشارع. ويلاحظ الباحث والمحلل السياسي عبداللطيف الحناشي أن دعوات رفع الحصانة توسعت لتتجاوز وسائل التواصل الاجتماعي وتشمل بعض أعضاء البرلمان. ولا يستبعد الحناشي في تصريح لـ”العرب” أن “تتحول هذه الدعوات إلى مطلب شرعي باعتبار أهمية استعداد النواب للتخلي عنها”. وحسب الحناشي، من الملاحظ أن هذا المطلب تزايد بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة وانتعش ضمن مناخ التغيير الذي يعيش على وقعه المشهد السياسي التونسي، حيث يرفض الشارع أن يكون برلمانه لحماية المفسدين وبالتالي تصاعدت موجة رفع الحصانة. ويضيف “هي حصانة لأجل الشعب وليس لأجل أفراد بعينهم مع استشراء ظاهرة الفساد وتواصل ظاهرة تغيب نواب عن الجلسات العامة”. ويخلص الحناشي مشيرا إلى أن “القرار قد يأخذ صبغة شرعية إذا ازداد قوة وتحصل على 149 صوتا حينها ستضمحل الحصانة ويصبح كل نائب فعلا مواطنا عاديا، ما يجعل من آمال تقويض الفساد ممكنة وما يدعم بدوره مرحلة الانتقال الديمقراطي التي تمر بها تونس”.

مشاركة :