لبنان وتشكل الجماعة السياسية العابرة للطوائف

  • 10/26/2019
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

أجبرت التظاهرات الشعبية المستمرة للأسبوع الثاني الحكومة اللبنانية على اتخاذ إجراءات اقتصادية استثنائية طالما انتظرها اللبنانيون. إذ لم يكن من الممكن مجرد تصور، فضلاً عن تبنّي، ورقة جذرية للإصلاحات الاقتصادية، أعلن عنها رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري قبل وقت قصير على انتهاء مهلة الـ72 ساعة التي وضعها الحريري لنفسه. من خلال هذه الورقة، تكون الحكومة اللبنانية قد تحولت من إستراتيجية تغطية عجز الموازنة الحكومية من جيوب المواطنين اللبنانيين التي باتت فارغة إلى إستراتيجية التقشف الحاد في النفقات العامة وزيادة ضريبة الأرباح على المصارف من 17 بالمئة إلى 34 بالمئة لسنة واحدة. ويمكن لتلك الإجراءات أن تحل الأزمة الأخيرة التي تسببت باندلاع الانتفاضة اللبنانية وهي استمرار فرض ضرائب ورسوم جديدة على اللبنانيين أثقلت كاهلهم ودفعتهم للانفجار. ولكن أزمة لبنان الاقتصادية أكثر عمقاً وأشد حدةً، إذ يعاني أكثر من ثلاثين بالمئة من الشباب اللبناني من البطالة في ظل ضعف هيكلي اقتصادي لا يني يولّد الأزمات الاجتماعية وينذر بمزيد من الانفجارات الشعبية. كما أن التفاوت في الدخل بين الطبقات الاجتماعية بات هائلاً، إذ أن دخول خمسين بالمئة من اللبنانيين تساوي دخول 0.1 بالمئة منهم. أزمة لبنان الحقيقية هي سياسية وليست اقتصادية وهو ما أدركته جموع المتظاهرين التي رفضت ورقة الإصلاحات، التي لم تكن حتى لتحلم بها قبل أسبوعين، واندفعت للمطالبة بتغيير جذري ينهي نظام المحاصصة الطائفية القائمة منذ ثلاثة عقود. تدرك الجماهير الغاضبة التي خرجت في جميع المناطق استحالة تنفيذ بنود الورقة الاقتصادية في حال استمرت ذات الطبقة السياسية وذات النظام السياسي الذي تحول إلى مجرد أداة لتوزيع الغنائم بين أمراء الحرب السابقين. مع ذلك، يبقى الحل والمخرج من الأزمة مبهماً للغاية. في الحقيقة، يواجه اللبنانيون المعضلة ذاتها التي واجهها نظراؤهم العراقيون في ظل نظام ديمقراطي، أو بصورة أدق “انتخابي”، قائم على التحاصص الطائفي. إذ لا يبدو طريق التغيير واضحاً في ظل عدم كفاية المطالب الديمقراطية وطرح مطلب “إسقاط النظام”. في لبنان كما في العراق، حتى لو نجح المتظاهرون في دفع الحكومة ورئيس الدولة للاستقالة، يمكن للنظام السياسي-الطائفي أن يعيد إنتاج نفسه عند حدوث أوّل انتخابات عامة. بعد رفض اللبنانيين للورقة الاقتصادية، طالبت الجموع باستقالة الحكومة اللبنانية وهو ما يمكن أن يحدث بالفعل في حال استمرار التظاهرات واستمرار قطع الطرقات وابتكار وسائل جديدة، كالإضراب العام، للضغط على الطبقة السياسية. ما يزيد من أزمة تلك الطبقة هو عدم إمكانية توظيف القوات الأمنية والجيش بشكل واسع لقمع المتظاهرين كما حدث في العراق وذلك بسبب التوازنات السياسية والطائفية الدقيقة والتي لا يمكن وضعها أمام اختبار من هذا النوع. ولكن استقالة الحكومة، وحتى الرئيس ميشال عون، لن يقدم حلا سحرياً ولن يقود بصورة أوتوماتيكية لنظام جديد قائم على المواطنة المتساوية متحرر من الحسابات الطائفية. لكي يتحقق ذلك، يجب أن تجري ترجمة المجتمع السياسي الذي تشكل لأول مرة في تاريخ لبنان الحديث في ساحات التظاهر إلى قوى سياسية تشبهه. لا يمكن لأي متابع للشأن اللبناني اليوم إلا أن يقف مشدوها أمام حجم اللحمة الوطنية ووعي الجماعة السياسية العابرة للطوائف والمناطق والتي تحتل الشارع في الوقت الحالي. هذه لحظة استثنائية في التاريخ اللبناني، بل وفي تاريخ بلاد الشام التي طالما جرى توظيف تنوعها الديني والطائفي والإثني في معارك طائفية، مباشرة وغير مباشرة، كانت تخدم الطبقات السياسية الحاكمة. ولكن اللحظة الثورية التي أنتجت هذا المتّحد الوطني ليست كافية للحفاظ عليه، بل يتطلب ذلك نشوء قوى سياسية وطنية ديمقراطية تدفع باتجاه بناء مؤسسات دولة وطنية وعقد اجتماعي جديد بين المواطنين. في تاريخ تطور الدول والمؤسسات والانتقال الديمقراطي، لعبت قوى قديمة، أو جزء منها، دورهاً في ذلك التحول وفي إيجاد الجماعة السياسية الوطنية التي تبنى عليها الدولة والأمة. إذ يمكن لأحداث شعبية استثنائية أن تغير بعض القوى السياسية التقليدية وتقلب موازين القوى تماما كما غيرت الجماهير ودفعتها للشارع. ولكن، في لبنان، لا يمكن للقوى السياسية الحالية، ولا بأي حال، أن تلعب الدور المأمول في التحول الديمقراطي الحقيقي وإقرار العقد الاجتماعي وإيجاد دولة محايدة تعزز من ثقة المواطنين الجدد ببعضهم الآخر وذلك بعد أن كفوا عن كونهم مجرد أفراد في جماعة أهلية مغلقة. معظم القوى السياسية الحالية، وبشكل خاص حزب الله، هي قوى طائفية صريحة لا يمكن أن تشارك بمشروع وطني من هذا الحجم وإلا ستكف عن أن تكون نفسها. تعرف كل القوى السياسية القائمة أن مشاركتها في إصلاح سياسي- مؤسساتي من هذا القبيل لن يؤدي فقط إلى فقدان مكاسبها من دولة النهب والفساد القائمة، بل ولفقدان دورها الوظيفي والمتمثل بإعادة إنتاج النظام الطائفي. إن إقدامها على خطوة من هذا النوع سوف يقود إلى انتهاء مبرر وجودها.

مشاركة :