لبنان مختبر لعلاقات عابرة للطوائف بين الشباب السوري

  • 10/17/2016
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

غيرت الحرب الدائرة في سورية كثيراً من الأمور في حياة السوريين، سواء من بقي منهم في البلاد أو من اتجه لاجئاً إلى دول الجوار أو أبعد. فإضافة إلى الآثار الظاهرة من موت وإصابات وخسارات وتهجير، هناك مفاعيل أخرى قد لا تبدو ظاهرة للعيان، بخاصة لمن لا يعرف البيئة السورية من قرب. يعتقد على صعيد واسع، أن فصلاً ما غير معلن كان قائماً في سورية بين فئات مختلفة من فئات المجتمع: بين أهل المدينة وأهل الريف، بين المسلمين والمسيحيين، بين السنة والعلويين، بين العرب والأكراد والأرمن والأقليات القومية الأخرى... كما يمكن الحديث عن فصل بين الطبقات الاجتماعية والاقتصادية. هذا الفصل الذي عززته سياسات النظام السوري عبر السنين، لا يبدو واضحاً بالضرورة في المساحات المشتركة بين الشباب كالجامعات والجيش، إذ توحي العلاقات العابرة والبروتوكولية بأن كل شيء على ما يرام. على هذا الأساس، عاش سوريون كثر مراهقتهم ثم شبابهم في جماعات متجانسة تكاد تكون عصية على الاختراق، وهو أمر ربما اعتادوا عليه حتى لم يعد كثيرون منهم يتلمسون مشكلة فيه. لكن الأحداث التي تلت الثورة السورية أجبرت أعداداً كبيرة منهم على الانتقال إلى لبنان بمفردهم أو برفقة عائلاتهم، حيث غالباً ما اندمجوا في مجتمعات سورية صغيرة نشأت في البلد المضيف بحكم العلاقات والشعور بالغربة والضعف. الفصل الذي كان سائداً في سورية سقط في ساحة اللقاء الجديدة، وسقطت الحواجز القديمة ليكسر اللقاء ما كان يعتبر طبيعياً في ما مضى، وليبدأ أصحاب الأفكار المسبقة مراجعة أفكارهم، فمن كان يعتبر من طبقة متدنية مادياً صار مديراً في العمل، ومن كان من دين مختلف صار رفيق سكن، بل وأكثر: فمعارضة النظام السوري وممارساته شكلت عاملاً أساسياً في جمع شباب لم يكونوا ليجتمعوا لولا معارضتهم ثم اضطرارهم للجوء، وتطورت العلاقات لتنشأ صداقات تحمل تنوعاً لم يكن مألوفاً على صعيد واسع من قبل. وفي هذا السياق، يمكن فهم بعض المقولات التي شاعت أخيراً، من نوع «الآن حتى بدأ بعضنا يتعرف إلى البعض الآخر»، و»اليوم حتى سمعت بوجود هذه المنطقة أو تلك العادات في سورية». الجديد هنا، أن فرصة حقيقية وجديدة أتيحت لعدد لا يستهان به من الشباب السوري للتعرف إلى أقرانه بعيداً من أي تأثير خارجي، في لقاء حقيقي يجمع أطرافه الهم المشترك وصعوبات اللجوء، وبدأت التحديات والانعكاسات بالظهور شيئاً فشيئاً، ولربما كان أهمها موضوع الارتباط العاطفي والزواج. ومثلاً، كان الشاب السوري المسلم ينشأ ويكبر وهو يعلم يقيناً أنه سيتزوج يوماً ما شابة مسلمة والعكس صحيح، وإن كان ذلك يتم على نحو غير معلن. والأمر نفسه ينطبق على المسيحيين، وأبناء القوميات الأخرى كالأكراد والأرمن، وتبقى حالات الارتباط العابر للأديان والقوميات محصورة في نطاق ضيق تختلف نسبته من منطقة إلى أخرى، لكنه لا يعبر في رأي كثيرين عن حالة عامة. المساحة الجديدة للشباب السوري في لبنان مع ما تتيحه خصوصية لبنان وهوامش تحرره، جعلت التفكير البديهي السابق يخرج من نطاق الجدران التي ظل حبيسها عقوداً. فبدأت ابنة المدينة تتجاوز عوائقها الخاصة أمام حبها لابن الريف، والمسيحي لم يعد يمانع الزواج بمسلمة أحبها وأحبته، حتى أن كثراً من الشباب المسيحي فوجئوا بأنهم يستطيعون الزواج بمسلمة (أو مسلم بمسيحية) زواجاً كنسياً مع بقاء كل طرف على إيمانه الخاص. مساحات اللقاء السورية الشبابية في لبنان مدهشة لمن لا يعرف سورية وكيف كانت: مسيحي حلبي متزوج من مسلمة من درعا، وكردية عفرينية مخطوبة لشاب من عائلات دمشق العريقة... كأن هذه المساحة السورية على الأراضي اللبنانية أصبحت مختبراً لمكونات الشعب السوري حيث تعاش خبرات تأخرت عقوداً من الزمن. ومع نزعة رافقت الثورة السورية وما تلاها نحو الالتزام الديني وصولاً نحو التشدد، تُلاحظ في الجهة المقابلة نزعة نحو حصر الإيمان في الإطار الشخصي والحيز الخاص، أي من دون أن يشكل عائقاً أمام ارتباط زوجي عابر للطوائف والأديان. لكن الصدمة التي واجهت العلاقات التي يأتي طرفاها من ديانتين مختلفتين، كانت في الحقيقة تعاوناً شديد القدم بين السلطة المدنية الحاكمة والسلطة الدينية الروحية على منع أي زواج خارج المؤسسة الدينية إسلامية كانت أو مسيحية. فالطرف المسلم لا يستطيع الزواج من الطرف المسيحي مع بقاء كل طرف على دينه إلا بشروط لا تنطبق على كل الحالات، فإن كان الشاب مسلماً والشابة مسيحية الطريق أمامهما محصور في الزواج الإسلامي، وفي الحالة المعاكسة أي الشاب مسيحي والبنت مسلمة فالأمر غير وارد مع بقاء كل طرف على دينه. المؤسسة الدينية المسيحية، والكاثوليكية تحديداً، لا تمانع عقد زواج طرفين أحدهما مسيحي والآخر غير مسيحي، بغض النظر من منهما الذكر ومن الأنثى. لكن تسجيل هذا الزواج في سجلات النفوس المدنية غير ممكن في سورية، ما يجعل الارتباط مستحيلاً. إلا أن حمل أحد الطرفين جنسية بلد آخر يمكن تسجيل الزواج فيه، سيسهل الزواج لكنه سيحرم أطفال المستقبل الجنسية السورية. هذا التلخيص يشرح بعجالة المأزق الذي انتهت إليه علاقات عديدة استطاعت كسر حواجز الأفكار المسبقة، بعد أن خرجت من سورية لتصطدم اليوم بنتيجة سنوات طويلة من تحالف المؤسسة الحاكمة مع المؤسسة الدينية، فحتى الخروج من مناطق سيطرة النظام وتجاوز عوائق الماضي والتواصل المباشر لم تكن مفيدة وحدها، فهذا التحالف يلاحق هؤلاء الشباب حتى في بلدان لجوئهم ومنافيهم، ليقتل حباً يبدو وحده تقريباً أملاً جميلاً لسورية المستقبل التي يسود فيها مفهوم المواطنة لا مفهوم الجماعات الإثنية والدينية.

مشاركة :