يبدو الاستمرارُ في إطلاق الجوائز الأدبية والثقافية الكبرى بعدد من الدول العربية أشبهَ بمزايدة، أبطالُها أشخاصٌ فاضت عليهم الدولارات، واختاروا أن يُرسخوا أسماءهم في التاريخ، بعد أن رسخوها في الجغرافيا. وإذا كانت الجوائز جزءا من جانب التداول الذي تفرضه، مبدئيا، صناعةُ الكِتاب وشكلا من أشكال الترويج لإنتاج الكُتَّاب والتعريف بهم، فإنها قد تزيغ عن أهدافها حينما يتم التماهي في التركيز على جانبها المالي فقط. وذلك ما يحدث في عدد من الدول العربية، حيث يتم التسابق على إطلاق جوائز تحمل، في الغالب، أسماءَ أشخاص، وتُراوح مبالغُ بعضها الآلاف من الدولارات. أما الحاصلون على الجوائز فيكونون في الغالب قد بلغوا عمرا متقدما، بشكل تصير معه هذه الجوائز أشبه بمنحة لترميم صحة الكاتب بدل ترويج أعماله. والغالب أن هذه الجوائز لا يمكن أن تسهم في خلق صناعة ثقافية حقيقية ولا حتى في تكريسها، لسبب بسيط هو أنها تُطلَق داخل سياق تغيب فيه المؤسسة الثقافية بمفهومها الحقيقي. وهو سياق يتسم أيضا بخلل على مستوى مكونات حلقة صناعة الكتاب الخمسة، سواء تعلق الأمر بالكاتب أو الناشر أو المطبعي أو الموزع أو القارئ. والذي يحدث أن الجوائز العربية، بشكلها الحالي، لا يمكن أن تخلق قارئا للأعمال، وذلك هو الهدف الأساس والمبدئي لفكرة الجائزة. فجائزة الغونكور الفرنسية الشهيرة، على سبيل المثال، لا تقدم مبلغا ماليا يُذكر للحائز عليها، وهو مبلغ لا يتجاوز العشرة دولارات، ولكنها تضمن له الآلاف من القراء والعشرات من الترجمات والطبعات، وهو ما تكشف عنه أرقام الجائزة، حيث يتجاوز معدل المبيعات على مستوى العناوين المتوجة الثلاثمئة ألف نسخة، بينما يتجاوز معدل مبيعات جائزة الكونغور الشقيقة الخاصة بتلاميذ المدارس الثانوية الخمسمئةَ ألف نسخة. وكان ذلك على سبيل المثال، حال رواية “ليلة القدر” للطاهر بن جلون، التي ترجمت إلى أكثر من أربعين لغة، ووجدت طريقها إلى السينما من خلال الفيلم الذي يحمل نفس العنوان والموقَّع من طرف المخرج الفرنسي نيكولاس كولتز. بينما منحت الجائزة للطاهر بن جلون حضورا متجددا داخل مشهد الكتابة الأدبية، سواء بفرنسا أو بغيرها. أما المدهش، وبخلاف الانطباع بكون جائزة الغونكور موجهة للكتاب المكرسين، ينحصر معدل عمر الفائزين في الاثنين وأربعين سنة. وكان ذلك حال الكاتبة المغربية ليلى السيلماني، التي خلقت الاستثناء بجمعها بين تجربة قصيرة في الإبداع لا تتجاوز العملين، وبين عمرها الذي لا يتجاوز الثلاثين، وذلك في الوقت الذي تبدو فيه الكثير من الجوائز الأخرى أشبه بمنحة نهاية الخدمة. ولا تشكل جائزة الغونكور الاستثناء، بل يهم الأمر أغلب الجوائز الأدبية الكبرى، سواء على مستوى فرنسا أو غيرها، وذلك حال جائزة الأكاديمية الفرنسية الشهيرة التي أقفلت المئة سنة من عمرها، وجوائز بوليتزر، التي تمنحها جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة الأميركية، وجوائز كوستا للكِتاب البريطانية. أما المشترك بينها فهو أنها تضمن للمتوجين بها مجدا أدبيا، بالإضافة إلى شيك شبه فارغ. غير بعيد عن ذلك، وفي كندا بالضبط، لا يتجاوز مبلغ الجوائز، في غالب الأحيان، الستة آلاف دولار، لكن عدد الجوائز يتجاوز المئات، بشكل يندر معه ألا يحصل كاتب كندي على جائزة ما عن عمل أصدره، وبشكل تصير معه الجائزة أشبه بمنحة للكتابة. وقد فوجئتُ، خلال افتتاح المهرجان العالمي للشعر بمدينة تَرْوا رِفُيير الكندية، بإعلان المهرجان عن عشر جوائز دفعة واحدة، حصلتْ على إحداها شابةٌ في السابعة عشرة من عمرها، بينما يتحتم على الكُتاب العرب، والمحظوظين منهم خصوصا، انتظارَ بلوغ أحفادهم عمرَ الشابة تلك للحصول على جائزة يذهب نصف مبلغها في الانتقام من “سنوات الضياع”. من منّا يكلف نفسه اقتناء كتاب فاز بجائزة عربية ما في اليوم التالي عن الإعلان عنها؟ من يذكر أصلا العناوين الفائزة؟ هل تُرجم أي عمل منوه به إلى لغة ما؟ قد يكون الأمر حدث، ولكنه استثناء. والاستثناء لا يخلق صناعة ثقافية بمفهومها الحديث. فوق ذلك، يبدو أن أثر العديد من الجوائز العربية لا يبرر أبدا حجم الأموال التي يتم صرفها عليها، سواء على مستوى الإعلانات التي تحتكر صفحات الجرائد العربية أو لجان القراءة أو حفلات تسليمها، بمناسبة كل دورة سنوية بالطبع. وهي أموال تكفي لإنشاء العشرات من الإقامات الأدبية والعشرات من دور النشر والعشرات من مؤسسات التوزيع والعشرات من المكتبات العمومية. وهي البنيات الحقيقية التي يمكن أن تسهم في خلق صناعة ثقافية متكاملة. يبقى أن للجوائز، سواء كانت غربية أو عربية، منطقها الخاص الذي قد يخلف وراءه ضحايا، سواء من الذين لا يتقنون لعبة الجوائز أو الذين يستَبعدون من فرصة اعتلاء بوديوم الجوائز لأكثر من سبب. ولعل لائحة منسيي جائزة نوبل للآداب، التي تعتبر الأكبر من نوعها على مستوى الكون، خير نموذج على ذلك. إذ تتعدد أسماء الكتاب الكبار الذين لم يتذوقوا طعم الجائزة. ويتعلق الأمر على سبيل المثال بالروائي مارسيل بروست، الذي يبدو أن تهمة معاداته للسامية كانت تسبق ترشيحه، والشاعر الإسباني لوركا، والشاعر الأيرلندي جيمس جويس، والكاتبة البريطانية فريجينا وولف، والكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، والكاتب الأميركي فيليب روث، المتوفى قبل سنتين، ومحمود درويش وأدونيس وغيرهم. وبمعزل عن ذلك، يبدو أن أيادي دور النشر لها نصيبها في لعبة الجوائز. قبل تسع سنوات، نشر كلود دوراند، المدير السابق لدار النشر الفرنسية فايار، كتابه “كنت أريد أن أصير ناشرا”. وهو المؤلف الذي كرسه صاحبه لقلب الطاولة على دور النشر الفرنسية الثلاث، غاليمار وكْراسي وسُوي، التي ظلت إلى فترة قريبة تتقاسم سوق الجوائز الكبرى، بحكم توفرها على أصوات يضمنها تواجد عدد من كُتاب هذه الدور ضمن لجان الجوائز وبفضل التفاهمات السرية بينها، التي تخضع لمنطق “أعطني صوتك، أعطيك صوتي”!
مشاركة :