الثورة اللبنانية تنبش ذاكرة بيروت

  • 10/28/2019
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

اختار جميل معوض محيط مبنى بيروتي يحمل ندوب الحرب ويعدّ أحد معالم المدينة ليلقي على العشرات من الطلاب محاضرة حول السياسة في المجال العام، فيما كانت التظاهرات تتسع حولهم في العاصمة اللبنانية. ويقول أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في بيروت إن هذا المبنى المعروف باسم “البيضة” في وسط بيروت “مكان تلتقي فيه المعرفة والتطبيق في آن”، موضحاً كيف شكلت التظاهرات التي دخلت السبت يومها العاشر، مفتاحاً للدخول إلى هذا المكان. وأضاف أن “التمكن من التدريس هنا هو فعل سياسي”، مشيراً إلى البناء الرمادي الضخم خلفه، فيما صدحت من حوله صرخات المحتجين المنددة بالطبقة السياسية. وشيّد مبنى “البيضة” في ستينات القرن الماضي. وكان من المقرر أن يكون جزءاً من مجمّع تجاري ضخم في بيروت، لكن الحرب الأهلية (1975-1990) وضعت حداً لهذه الخطط، وعرقلت طموح تطويرها. مبان مهجورة لم تعد محرمة منذ أن انطلقت تظاهرات نادرة وعابرة للطوائف في بيروت للمطالبة برحيل الطبقة السياسية واندلعت الحرب الأهلية في أبريل عام 1975، ووضعت أوزارها في 13 أكتوبر 1990، مع التوصل إلى اتفاق الطائف في السعودية عام 1989. غير أنها أتت على الأخضر واليابس وخلفت نحو 150 ألف قتيل و300 ألف جريح ومعوق و17 ألف مفقود، فضلا عن هجرة أكثر من مليون شخص، وخسائر مادية فاقت 100 مليار دولار، على مدى خمسة عشر عاما عجاف. وذكرى الحرب ظلت عالقة في ذاكرة اللبنانيين بمآسيها وصورها المؤلمة، فقد كانت عبارة عن عدة حروب في حربٍ واحدة، لم تكن إسلامية- مسيحية فحسب، بل دارت أيضا بين المسلمين بعضهم ضد بعض، وكذلك بين المسيحيين ضد المسيحيين. وتمثلت القوى المتصارعة في مختلف الطوائف الإسلامية والمسيحية في لبنان، إضافة إلى ”منظمة التحرير الفلسطينية”، والجيش الإسرائيلي الذي اجتاح البلاد عامي 1978 و1982، وكذلك الجيش السوري الذي دخل لبنان عام 1976. وبدأت الحرب تخبو في أغسطس عام 1989 مع توصل النواب اللبنانيين في مدينة الطائف غربي السعودية، إلى ما يُعرف بـ”اتفاق الطائف”. ودخلت البلاد في مرحلة ترميم ما دمرته الحرب على جميع الأصعدة في محاولة لتجاوز تجربة هي الأقسى في تاريخ اللبنانيين. ولم يكن ذلك بالمهمة السهلة. ومع بدء عملية إعادة الإعمار وسط بيروت بعد الحرب عبر شركات خاصة حولت معالم الوسط التقليدية إلى مبانٍ فارهة، كان مبنى“البيضة” ذو الهندسة اللافتة مهدداً أيضاً بأن يضيع في موجة الترميم. وحدّت الشركات الخاصة الكبرى والمثيرة للجدل التي تسلمت مهمة إعادة الإعمار في وسط بيروت من إمكانية الدخول إلى هذا المعلم. وعلى الرغم من ذلك، بات المبنى في التسعينات، ولوقت قصير، مركزاً لحفلات ومهرجانات سرية. لكن هذا المبنى لم يعد محرماً منذ أن انطلقت تظاهرات نادرة وعابرة للطوائف في بيروت للمطالبة برحيل الطبقة السياسية الأسبوع الماضي. واقتحم أكاديميون ومحتجون المبنى خلال الاحتجاجات، وشاهدوه عن قرب للمرة الأولى، أسوةً بمعالم أخرى في المدينة. ويقول بشار الحلبي، وهو باحث في الجامعة الأميركية في بيروت ألقى محاضرة الجمعة في المبنى، “أسكن على بعد مئتي متر من البيضة، وهذه المرة الأولى التي أدخل فيها إليه”. ويتابع “في داخله تاريخ بيروت، وخارجه في الشوارع حاضر العاصمة ومستقبلها”. وبعد ظهر الخميس، اقتحم أكثر من مئة شخص معظمهم من الطلاب مبنى البيضة الفارغ من الداخل، فيما كان الخبير الاقتصادي والوزير السابق شبل نحاس يلقي محاضرة حول “الرأسمالية في أزمة”، والمطر ينهمر بغزارة في الخارج. وقال نحاس الأستاذ في الجامعة الأميركية في بيروت لحشد من الطلاب “إن هذه المساحة هنا أكثر أهمية من أي جامعة”. وحوله جدران أتلفها رصاص الحرب وتلونت بشعارات “الثورة” الداعية إلى ”إسقاط النظام”. ملصقات علّقت على القضبان الحديدية أعلنت “احتلال” الصرح أثناء مرور بائع قهوة مع صوت طقطقة فناجينه الزجاجية التقليدية. وعلى بعد أقل من مئة متر، دخل متظاهرون أيضاً مسرحاً سُيج منذ نهاية الحرب في وسط المدينة، لكن أعيد إغلاقه من جديد بسبب مخاوف متعلقة بالسلامة. أخرج المحتجون رؤوسهم من نوافذ المبنى فرحين ومبهورين بهندسته الداخلية المذهلة، وألقى بعضهم نظرة على سطحه. وقام جميل معوض بجولة مع طلابه داخل العمارة التي عرفت باسم “المسرح الكبير لألف ليلة وليلة” باللغة الفرنسية، قبل دقائق من إغلاق مدخلها بسواتر خشبية، ووصف معوض لحظات التجول في المبنى قبل إغلاقه بأنها “قوية وسياسية”. وفي خيمة قبالة جامع محمد الأمين في ساحة الشهداء كانت يمنى فواز، أستاذة الدراسات المُدُنية في الجامعة الأميركية في بيروت، تدير نقاشاً بين طلابها ومتظاهرين آخرين. وقالت فواز “المدينة التي تحولت إليها بيروت خالية من الأماكن العامة، نحن محصورون ضمن أبواب الجامعة”.

مشاركة :