الكتابة وتجسير الفجوة بين الماضي والحاضر

  • 5/11/2015
  • 00:00
  • 50
  • 0
  • 0
news-picture

في هذا المقال يفتح الناقد العراقي سامي البدري مجموعة من الأسئلة تغوص بعيداً في مفهوم الذائقة بمعناها الفلسفي الوجودي، قبل أن تصبح محمولة على نحو فني متمثل بأشكال التعبير الأدبي وأجناس الأدب الحديث، شعراً ومسرحاً ورواية . وهو هنا، يبدأ من ذلك الاشتغال الذي جرد الفلسفة من معناها التجريدي والوجودي لتصبح مطواعة في "فضاءات الترويض والتجميل، خاصة في جنس الرواية، الذي بدأ اشتغال حقله الوجودي، الروائي الروسي الكبير، فيودور دستويفسكي" . وقد وفر اشتغال الفلسفة الوجودية للأجناس الأدبية بحسب البدري وسيلة للتعبير وطرح الأفكار والاقتراب من تجربة العيش والنفاذ عبرها إلى أدق الأسئلة والمشاكل التي يعانيها الإنسان، وهو الذي بدأ يتمظهر في صيغ صارت متداولة على ألسنة النقاد مثل "الذائقة العامة" والذائقة الأدبية، التي تعكس ثقافة المجتمع، بعمقها المعرفي والفكري، وتدلل على مستوى نضوج منطلقاته وآفاق تطلعاته . يقول البدري "إن المشروع الثقافي لأي مجتمع من المجتمعات هو صورة لذائقته النفسية وطريقة تفكيره وأخذه للحياة، ومجتمع بلا ثقافة ينتجها عقل رصين، لن تتعدى حدود ذائقته، أزقة حواريه وأسواقه الضيقة وسطوة مؤسساته البيروقراطية، سواء كانت اجتماعية أو إدارية أو سياسية" . ويشرع مقاله في تحليل كثير من التفريعات التي تلقي ضوءاً على رصانة المنتج الأدبي والفكري، مع نوع من التحليل لمعنى الذائقة، لاسيما في المجتمعات العربية، التي ما تزال حتى اللحظة تعيش فترة حرجة وهي تفتش عن مشروعها الحضاري والفكري والاجتماعي الراكد الذي يعتوره كثير من الخلل والعطب المؤسساتي والفردي، لاسيما وهي تستند إلى كثير من المقولات الجاهزة المحكومة بإرث ثقافي وسلسلة من العادات والتقاليد والمواريث الاجتماعية، البعيدة عن الواقع، كالتي يصفها البدري "تأبى الخروج من أسر هذا الواقع" . حديث البدري في مقالته هذه، وباعترافه هو، موجه للنخب الثقافية، في المجتمعات العربية، كما هو في المؤسسات الأكاديمية والثقافية التي لم تستطع حتى اللحظة إنجاز مشروع أو منهج نقدي، أو "حتى مجرد رؤية بملامح محددة، نستطيع أن نسميها رؤية نقدية" . ويمكن هنا، نقاش الأفكار الواردة في مقالته، تبعاً لمفهوم الذائقة، التي تناولها نقاد عالميون متمرسون، جاء على ذكر بعضهم الناقد فخري صالح الذي بحث في كيفية تقديم العمل الأدبي نفسه للقراء، وكيف يمكنه أن يغير الذائقة الأدبية ويقلب المعايير، التي استند إليها القراء على مدار عقود أو قرون أو عصور . يشير صالح إلى مدرسة التلقي الألمانية الشهيرة، التي تدعى مدرسة كونستانس، التي ركزت بصورة أساسية على تحليل العلاقة بين العمل الأدبي والقارئ، كما يشير إلى الناقد والمؤرخ الأدبي الألماني "هانز روبرت ياوس" (1921 - 1997) الذي يعد من أبرز أعلام مدرسة كونستانس التي عني أفرادها، بصورة عامة، بعلاقة دلالة النص الأدبي بالقارئ، وهو الذي طور مع زملائه في جامعة كونستانس الألمانية، وعلى رأسهم وولفغانغ آيسر، ما عرف في سنوات الستينات والسبعينات من القرن الماضي بنظرية التلقي . صاغ "ياوس"، بحسب صالح، تعبير "أفق التوقعات" ليفسر أسس عملية الاستقبال الأدبي حيث تتحدد قيمة أي نص بالاستناد إلى المسافة التي تقوم بينه وبين "أفق التوقعات" ويذكرنا مصطلح "أفق التوقعات" بتعبير "اندماج الآفاق" الذي صاغه أستاذ ياوس، "هانز جورج غادامر"، وفسر استناداً إليه عمليات فهم الماضي والآخر، إذ بدلاً من الحديث عن الفهم كحقيقة موضوعية، يرى "غادامر" أن الفهم لا يتحقق إلا من خلال تكييف المعنى وتسوية الخلاف في وجهات النظر . إن عملية القراءة، بحسب "غادامر"، هي نوع من تجسير الفجوة بين الماضي والحاضر، ونحن إذ نمارس فعل القراءة في الحاضر لا نستطيع التخلص من الأفكار الجاهزة والتحيزات المستقرة في ثقافتنا . ولكننا مع ذلك نستطيع في هذا الأفق المحدود تاريخياً أن نتوصل إلى بعض الفهم الذي يمكننا من إلقاء بعض الضوء على النصوص القديمة . وفي أثناء عملية الفهم هذه قد يحصل نوع من الاندماج بين "أفق توقعاتنا"وآفاق كتابة الماضي وقراءته . أثارت مقالة هانز روبرت ياوس "التاريخ الأدبي بوصفه تحدياً للنظرية الأدبية" ردود فعل كثيرة في ألمانيا . كما دخل في جدل ومعارك نقدية مع ممثلي مدرسة فرانكفورت، لا سيما بعد انتقاده لعمل ثيودور أدورنو الذي بحث في "نظرية علم الجمال" ونادى باستقلالية العمل الأدبي، بوصفه ظاهرة اجتماعية - تاريخية، والجمال المشترك بين الطبيعة والفن . ياوس انتقد النظرة النخبوية للفن ومفهوم استقلالية العمل الأدبي، وركّز على مصطلح ابتكره هو "أفق التوقعات" وأجرى تعديلاً على هذا المصطلح الأخير وعبر عنه ب"التجربة الجمالية" بوصفها المتعة الذاتية التي يحصل عليها المرء من خلال التواصل مع متعة جمالية أخرى" . في هذا الصدد وفي تعريف الذائقة ثمة دائماً احتمالات كثيرة مفتوحة على الشخص وثقافته وبيئته وتواصله مع الآخر، وهي ليست محل نقد شخصي، بقدر ما هي عملية تحليل، وتواصل ونمو، وهي كما يرى نقاد كثر ذات أذرع كثيرة ولها أدواتها المفتوحة على المعرفة دائماً وأبداً .

مشاركة :