إن مشكلتنا الكبرى ليست في الإرهاب والتطرف الآثم الذي يتفق العقلاء من كل الديانات والمذاهب على نبذه واستبشاعه، إنما مشكلتنا في أوطاننا هي في أقوام يتعاطفون مع هذا الإرهاب، ولا يسرهم أن ينهزم وتنكسر شوكته، ولا أن يعاقب أو يقضى على زعاماته وعناصره الذين يمارسونه نشرت هذه الصحيفة قبل أيام تصريحاً على لسان سمو الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة رئيس مجلس الوزراء بمملكة البحرين، أكد فيه سموه أن من يمتنع عن نبذ العنف صراحة والتبرؤ من مرتكبيه بكل وضوح وحزم لم يعد مؤهلاً للحديث عن الإصلاح والديمقراطية والجدية تجاه أي تهيئة للتطوير. وحقيقة فقد جاءت هذه العبارة من سموه ضاربة كبد الحقيقة، وكاشفة عن موطن خلل جسيم نعاني منه في مجتمعاتنا، ذلك أن من أعظم الأسباب المؤدية إلى استمرار وتنامي الفكر الإرهابي المتطرف، كونه دائماً محاطاً بسياج من المؤيدين في الخفاء، الذين يدعون أنهم يشاركوننا في نبذه والبراءة منه، إلا أنهم يقفون دوماً وفي كثير من المواقف التي تتطلب البيان بوضوح، يقفون موقف الصامت المتفرج، وكأن الأمر لا يعنيهم. وخير وصف لصمت هؤلاء عن نبذ الإرهاب والتطرف والبراءة منه، المقولة الشهيرة لأبي سفيان رضي الله عنه، التي قالها قبل إسلامه حين قامت نساء المشركين بالتمثيل بقتلى المسلمين في غزوة أحد، إذ قال عن ذلك: (ستجدون في القوم مثلة لم آمر بها، ولم تسؤني). وهذه العبارة بحق هي أصدق وصف لمواقف بعض أقوامنا من المحسوبين على العلم الشرعي، أو التدين، أو الثقافة، أو المنخرطين في مشاريع الإصلاح الوطني، أو الرافعين لشعار نبذ التطرف والإرهاب عموماً، لكنهم في مواقف يضرب فيها الإرهاب مكتسبات الوطن، أو يتعدى على الحرمات المصانة في الشريعة، أو يرتكب من الإفساد في الأرض ما حرمه الله ونهى عنه؛ لا تراهم يصدر عنهم الاستنكار أو البراءة الصريحة الواضحة لهذه الأفعال، إذا كان ضحاياها من غير المحسوبين على فريقهم أو مذهبهم أو طائفتهم. ومقولة: لم آمر بها ولم تسؤني، واضحة الدلالة على أن قائلها يؤمن تماماً بأن الفعل الذي يتحدث عنه يعتبر فعلاً مستنكراً بشعاً مرفوضا، وأن فيه تعدياً وجناية على أبرياء، فهو يتبرأ من الأمر به والمساهمة فيه لهذا السبب، لكنه في ذات الوقت لا يستحي ولا يتردد في التصريح بأنه لم يسؤه، بمعنى أنه راض عنه وفرح به. وهذه الازدواجية في الموقف، والتناقض في الرأي، أمر محرم في الشريعة، مرفوض في الإسلام، فليس هناك في الإسلام ما يحرم الأمر به أو فعله، بينما يجوز الرضا به والفرح بوقوعه. فهذا عبد الله بن جحش -رضي الله عنه - يرسله النبي -صلى الله عليه وسلم - في سرية؛ ليرصدوا عيراً لقريش، فأدركوها في آخر يوم من رجب الشهر الحرام، وتشاوروا، وقالوا: إن قاتلناهم انتهكنا الشهر الحرام، وإن تركناهم الليلة دخلوا الحرم. ثم أجمعوا على ملاقاتهم، فقتلوا عمرو بن الحضرمي، وأسروا آخرين، ثم قدموا بالعير والأسيرين المدينة، فأنكر عليهم الرسول ما فعلوه، فهو لم يأمر به، وساءه إذ بلغه، مع أن المقتول مشرك محارب، وأنزل الله في ذلك قوله تعالى: (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه، قل قتال فيه كبير)، قال ابن القيم (زاد المعاد 2/152): "والمقصود: أن الله سبحانه حكم بين أوليائه وأعدائه بالعدل والإنصاف، ولم يبرئ أولياءه من ارتكاب الإثم بالقتال في الشهر الحرام، بل أخبر أنه كبير.." أ.ه. إن مشكلتنا الكبرى ليست في الإرهاب والتطرف الآثم الذي يتفق العقلاء من كل الديانات والمذاهب على نبذه واستبشاعه، إنما مشكلتنا في أوطاننا هي في أقوام يتعاطفون مع هذا الإرهاب، ولا يسرهم أن ينهزم وتنكسر شوكته، ولا أن يعاقب أو يقضى على زعاماته وعناصره الذين يمارسونه. إن التطرف والعنف الذي أكدت الشريعة على تحريمه، وجعله الله من الإفساد في الأرض، لا يمكن لأحد أن يمارس خلط الأوراق والتلاعب بالمفاهيم ليقنع السذج من الناس أنه من صور الجهاد المأمور به شرعاً؛ فالجهاد في الإسلام شريعة واضحة المعالم، سامية الغايات، نظيفة الوسائل، يحكمه ضوابط كلها رحمة وسمو، وعدالة. ليس في الجهاد غدر ولا خيانة، وليس فيه أبداً اعتداء ولا جناية على نساء وأطفال وعزل أبرياء. فلا يجوز قتل هذه الفئات من غير المسلمين فضلاً عن المسلمين المسالمين. وإذا كان أدعياء الإصلاح أو الوطنية أو الدين يزعمون أنهم يستنكرون هذه الأفعال الشنيعة، ويدعون إيمانهم التام أن الإسلام لا يجيز الاعتداء على الحرمات، ولا سفك الدماء المعصومة، ولا تكفير المسلمين بالمعاصي مهما بلغت، فإن عليهم أن يتبرأوا صراحة ممن يفعل هذه الأفعال، وأن يكونوا جنوداً في صفوف الوطن المسلم في حربه على كل معتنقي هذا الفكر البغيض، وألا يقولوا كما قال أبو سفيان: (لم آمر بها ولم تسؤني). وإلا فالراضي والساكت المتعاطف أخطر علينا من الفاعل المجرم الظاهر. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش الكريم سبحانه.
مشاركة :