على مر الزمان والأجيال، سطر التاريخ بحروفٍ من نور أسماء روائيين ومبدعين، أضاءوا حياتنا وعمرنا وقيمنا.. الكاتب المبدع مصطفى بيومى بدأ مشروعًا طموحًا للكتابة عن هؤلاء العظماء، وأنجز منه ثلاثين فصلًا.. يتضمن كل فصل تحليلًا لشخصية روائية واحدة من إبداع كتيبة الروائيين المصريين، من طه حسين ومحمد حسين هيكل وعبدالقادر المازنى إلى جيل الشباب الموهوب المتوهج، مرورا بعشرات الكتاب الجديرين بالاهتمام والدراسة. عبر هذه القراءات، يقترب مصطفى بيومى من الحياة المصرية في مناحيها المختلفة، انطلاقًا من تساؤله المشروع: «وهل مثل الرواية في قدرتها على تقديم الشهادة الشاملة التى يمكن من خلالها التطلع إلى المستقبل الأفضل الذى ننشده؟». «البوابة نيوز» تحتفى بكاتبنا الكبير وتنشر صباح يومى الثلاثاء والسبت من كل أسبوع، فصلا من الدراسة القيمة، لتكون شاهدًا على عصور زاخرة في عمق الأدب المصرى وقوته الناعمة. طبيب شاب يعمل ويعيش في مدينة الإسكندرية، ومثل غيره من شباب الأطباء المنتمين إلى الطبقة الوسطى الأقرب إلى الفقر، تراوده أحلام الصعود المهنى والطبقي، ويفكر في مفردات حياة البذخ والرفاهية التى تتمثل في العيادة الخاصة الأنيقة المزدحمة بالمرضى الأثرياء، والسيارة الفاخرة الفارهة، والقصر الذى يبهر الأنظار، والزوجة الجميلة، والإيقاع الناعم الحافل بمعطيات الترف. المعطى الواقعى يختلف جذريا عن أحلام النوم واليقظة، والطبيب عزيز يضيق بمرضاه الفقراء المترددين على المستشفى الحكومي، ويتأفف من سلوكهم وقذارتهم: «وتحتقن عيناه وهو يراقب وجوههم الكالحة، وبلادتهم، ويتساءل في ضيق متى يكون له مرضى من صنف آخر غير هذا الصنف الذى لا يكف عن الإلحاح والشكوى والكذب، والذى يفرز القذارة في العنابر، ويخزن القمامة والبصل تحت الأسرة البيضاء». تبدأ أحداث الرواية يوم عيد ميلاد الدكتور عزيز، وفى الاحتفال المرح الذى يقيمه الأطباء لزميلهم ما يكشف عن قصة الحب التى يعيشها مع نبيلة، المخطوبة لأستاذه الدكتور بحر، ومما يُقال في الاحتفال إن الدكتور الكبير يضبطهما منفردين في معمل الأمراض الصدرية، ولا يجد عزيز ما يبرر وجوده في المعمل إلا ادعاء المرض، وللتدليل على صحة زعمه يترك عينة من لعابه للتحليل. الهزل ينقلب جدا، ونتيجة تحليل العينة تثبت أن الدكتور عزيز مصاب بالسل. بعد اكتشاف المرض، يحل التعب على عزيز، ويتحول سريعا إلى الجدية المفرطة والاستسلام للخوف. يودع الحجرة التى يقيم فيها منذ سبع سنوات، حيث فتحية، فتفت، التى يعرفها طفلة تلهو معه وتلعب، لكن الفتاة تتعلق به وتحبه مع بلوغ عامها الثالث عشر. لا يبادلها الحب بطبيعة الحال، وما الحب الذى تتوهمه إلا من علامات وأعراض المراهقة. يسافر عزيز إلى المصحة في ضواحى القاهرة لتلقى العلاج، ويسهب الروائى الطبيب صلاح حافظ في وصف مرض السل وأطواره المتعاقبة، مسلحا بالثقافة الطبية واللغة البسيطة السلسة التى لا يعز استيعابها وفهمها، أما الرؤية التى يتبناها الروائي، دون نظر إلى الشخصية وأبعادها، فإنها تحلل المرض والعجز عن مقاومته من منظور طبقى سياسي، ذلك أن الأمر عنده يتطلب ميزانية ضخمة تفوق ما تدبره الحكومة: «الحكومة تكتب الميزانية فقط، ولكنها لا تصنعها، ولا تستطيع أن تتمرد عليها. إن الذى يصنع الميزانية هو البنوك، ومحصول القطن، واضطرابات العمال، وخسائر الفيضان، ومصالح التجار». وفقا لمعطيات الرواية، لا يمكن أن ينتسب التحليل السابق إلى عزيز أو يعبر عن شخصيته، فهو طبيب عادى لا يتبنى أفكارا ثورية يسارية، وطموحاته برجوازية تقليدية، لكن تجربته القاسية في المصحة تتكفل بتغيير مساره الفكري، وما المكان الذى يقصده إلا صورة مصغرة مكثفة للمجتمع المصرى في مطلع الخمسينيات من القرن العشرين. المرضى من نزلاء المصحة النائية المنعزلة ليسوا كتلة واحدة متجانسة، والتباين الطبقى الحاد يتمثل في درجات الإقامة حيث الاختلاف الشاسع في مستوى المعيشة وطبيعة الخدمة بين المجاني، الفقراء سكان القاع الطبقي، ومدفوع الأجر، الصفوة من الأثرياء، أما الدكتور عزيز فتتكفل نقابة الأطباء بتكلفة علاجه. يقيم مع الأغنياء، وهو ليس منهم. العنابر المجانية أقرب إلى الأحياء الشعبية العشوائية الصاخبة، الحافلة بكل إفرازات الفقر والوعى المحدود. يعانى المقيمون فيها صنوفا شتى من المعاناة، أبرزها أزمة العطش المزمنة جراء شح الماء: «وكثيرا ما ينقطع الماء عنها طوال اليوم فيزحف مرضاها كالمجانين هنا وهناك، ويتقاتلون على كل قطرة تصادفهم كالذئاب الجائعة». ولم يفهم عزيز لماذا لا تمد المصحة لنفسها أنبوبة مستقلة تحمل إليها الماء؟. لا يعانى عزيز المشقة التى يكابدها فقراء المرضى، لكن حسه الإنسانى يقوده إلى التعاطف معهم والاقتراب الواعى من همومهم وعذاباتهم، وسرعان ما يندمج في المكان الجديد متناسيا ماضيه القريب المختلف: «لم يعد يفكر في شيء خارج المصحة، وأنه لم يعد يتكلم إلا عن المدير، وإبرة الهواء، والماء الذى جف في المواسير». في إطار هذا التحول المبرر، تتغير أحلام عزيز وينتقل من التفكير في التحقق الذاتى إلى مراودة إعادة صياغة الواقع البائس ومقاومة آفاته وأمراضه، لكن غير المفهوم هو ما يردده من أشعار ثورية في الاحتفال بعيد ميلاد فايز، رفيق المرض والعنبر. الشاعر كمال عبدالحليم من القادة التاريخيين للحركة الشيوعية المصرية، وديوانه «إصرار» ذائع الصيت في أوساط المثقفين اليساريين خلال المرحلة التاريخية. لا ينتمى عزيز إلى هؤلاء بطبيعة الحال، فكيف يحفظ قصائد كاملة من الديوان؟. إضفاء الانتماء الثورى على هذا النحو المباغت لا يتوافق مع طبيعة شخصية عزيز كما تقدمها الرواية منذ صفحاتها الأولى، والتعاطف التدريجى صانع الوعى يخلتف عن الرؤى الثورية سابقة التجهيز. عزيز ليس من السادة الأثرياء، وهو بعيد أيضا عن الأغلبية الفقيرة المقهورة، داخل المصحة وخارجها. إنه ابن الطبقة الوسطى التى تقف حائرة مترددة بين الطبقتين، واشتعال الثورة في المصحة يعنى الاحتياج إلى قائد، فهل يصلح عزيز زعيما للمتمردين؟. في اجتماع حاشد لنزلاء المصحة الساخطين، ألف وستمائة مريض، تتبلور المطالب التى تهدف في جوهرها إلى تغيير جذرى في أسلوب الإدارة العتيقة البالية، ويجلجل صوت عزيز مستجيبا للمد الثورى العارم، وتنطلق من فمه كلمات قد لا يقصدها: «احنا الإدارة». قبل أن يتراجع عن صيحته غير المحسوبة، يعلو الهتاف الحماسى للمجتمعين: «عاش الدكتور عزيز مدير المصحة». الاستيلاء على السلطة ليس نهاية المطاف ولا يمثل هدفا في ذاته، ذلك أن النجاح المنشود هو التفاعل الإيجابى مع المشكلات والتحديات، وصولا إلى تذويبها والتغلب عليها. المعارضة فعل هين ميسور، وتختلف عن صناعة القرار وتحمل مسئولية التنفيذ السريع لبرنامج الثورة وتطلعاتها. مع الصعود إلى قمة السلطة داخل المصحة، يشعر عزيز بثقل المسئولية الملقاة على عاتقه: «وأطرق برأسه يفكر وقد بدأت هموم كثيرة تحاصره، وصوت ملح يهمس في أذنيه: ماذا فعلت يا مجنون؟ ماذا تريد أن تفعل؟». لا يتبنى الطبيب القائد خطة عمل محددة الملامح، والتصورات التى يفكر فيها أقرب إلى انتظار حلول قدرية لا تتكئ على حسابات عملية واضحة. الخطير المريب المثير للدهشة هو تفكيره في الاعتماد على دعم ومساندة إخلاص هانم، رمز وعلامة النظام لقديم السابق للانتفاضة، وهى مؤسسة وممولة الجمعية الخيرية الأرستقراطية التى تنفق وترعى لأسباب دعائية استعراضية في المقام الأول، فما الذى يتغير إذا، وما جدوى الثورة؟. تتراوح مواقف عزيز بين القوة والضعف، الإصرار العنيد والتراجع السريع الذى يقف به على حافة الانكسار والانهيار. يتفاءل أحيانا فيحلق بعيدا مع الأحلام الوردية الخارقة، ويتشاءم في أحيان أخرى فتحاصره الكوابيس ومشاعر اليأس والإحباط، ولا شيء يحقق التوازن والانسجام إلا الاندماج في الكتلة الشعبية العريضة صانعة الثورة. في توقيت متزامن، يجسد الازدواجية والتخبط وضبابة الرؤية، يكلف عزيز النوبى الصلب أوش الله، الجندى السابق في الجيش، بتشكيل وقيادة كتيبة من المرضى لحماية المصحة من مخاطر الاقتحام، ولا تتوقف أيضا محاولاته لاستقطاب إخلاص هانم والتواصل معها. مع هذين التوجهين المتناقضين، تتوالى العقبات التى يواجهها عزيز وأخطرها مشكلة نقص الدواء، وهى الأزمة التى يتصدى لها بقرار ثورى لا مهادنة فيه أو مراعاة للمعايير البيروقراطية التقليدية: ودق جرس التليفون، فرفع السماعة ليجد الدكتور زكى يكلمه من العيادة: - خلاص يا دكتور مافيش ستربتوميسين.. لازم تصاريح جديدة علشان نقدر ناخد من المخازن اللى هنا.. فأجاب بلهجة حاسمة: - اكسروها.. - مش ممكن.. المخازن دى ملك الوزارة، مش ملك المصحة.. - اكسروها يا دكتور. في مقابل جرأته الثورية هذه، لا يخفى عزيز فرحته بزيارة إخلاص هانم للمصحة، ويسعى إلى إقناعها بالاستمرار في القيام بدورها القديم في ظل الإدارة الجديدة، بل إنه لا يتورع عن تبنى أساليب النظام السابق كأن شيئا لم يتغير. تبعيته للهانم تنهض دليلا على ثوريته الهشة، ورغبته في إرضائها واستمالتها إلى صفه تصل به إلى حد توقيع عقوبة قاسية على أحد المرضى، حتى يثبت لها قوته وأهليته لأن يكون مديرا ذا هيبة، فما الفارق بين العهدين؟. الفلاح الحكيم مغلوب هو من يضع يده على القانون الذى يحكم العلاقة بين عزيز والهانم، في ظل غياب التكافؤ والندية: «انت عاوز تاخد من الست.. ومش ها تقدر تعمل غير اللى يعجبها.. وأهو انت أهو عشان خاطرها بتقول نطرد الناس اللى هدومهم مش عاجباها.. حتى الرجل الغلبان اللى عطش وشرب نقطة ميه حكمت عليه بعشرين عصايه وهو صايم». لا متسع هنا لإدانة عزيز والتحامل عليه، ولا معنى أيضا للدفاع عنه وتبرئته، ذلك أن مواقفه تتراوح صعودا وهبوطا، وتلعب العوامل الذاتية دورا مهما في صناعة سلوكه المذبذب. صدمة عاطفية عاتية يتعرض لها عزيز بخذلان حبيبته نبيلة له وزواجها من صديقه المقرب صدقي، ويتمثل رد فعله في التقوقع والانعزال والاكتئاب والتراجع عن الاهتمام بقضية المصحة ومرضاها. يتحول إلى طفل حرون يخاصم الجميع ويلوذ بالصمت، وكلماته القليلة تتسم بالجفاف والفظاظة، واللامبالاة تهيمن فلا يبدو مهتما بالهم الموضوعى الذى ينشغل به الجميع ويضحون في سبيله. الممثلة سمر، خطيبة زميله فايز، هى من تواجهه بكلمات صريحة عنيفة تشير إلى خلطه المدمر بين الذاتى والموضوعي: «فيه ناس ضحوا بحياتهم قدامك يا دكتور، وما رضوش يهربوا، وانت مش قادر تتحمل صدمة زى دي، بتحصل كل يوم.. مش قادر تستمر علشان بنت.. عاوز تهرب علشان بنت». تمثل سمر محطة مهمة في مسيرة عزيز، وبعد سقوط خطيبها قتيلا تحت عجلات سيارة الشرطة التى تقتحم المصحة، تتجلى حقيقة الحب المخبوء الذى يجمعهما. بفضلها يستعيد حيويته وقدرته على القيادة وتوجيه الأحداث، ويتحمس لتنظيم المظاهرة الحاشدة التى تضم نصف النزلاء وتحاصر وزارة الصحة لإجبار الوزير على الاستماع إلى المطالب، وعزيز هو من يقود المفاوضات في مواجهة الوفد الرسمى الذى يضم مندوبا من القصر الملكى ووكيل وزارة الصحة وضابطى جيش من المعسكر المجاور للمصحة. يبدى براعة لافتة تفضى إلى مكاسب مهمة، ويمكن القول إنه قائد منتصر عنيد لا يعرف المهادنة والضعف، لكن الفضل الأكبر مردود إلى إرادة الجماعة وتضحياتها. يغادر عزيز المصحة بعد شفائه ويتهيأ لاستعادة الإيقاع القديم لحياته، لكنه لا يهنأ بالحرية والصحة. بمجرد وصوله إلى محطة العاصمة، قادما بالقطار من المصحة، يتم اعتقال الطبيب الذى توقن السلطة أنه المتهم الأول في التحريض على التمرد: «وإذا بصف من الجنود ينبثق من تحت الأرض، ويطبق أحدهم على يديه بقيد حديدى ثقيل». الاعتقال ليس نهاية المطاف بطبيعة الحال، فهو حلقة من سلسلة طويلة في الصراع الذى لا ينتهى بين النظام ومعارضيه، والجديد الجدير بالاهتمام هو الانتصار الذاتى الذى يحققه عزيز على الصعيد العاطفي. يقترب من سمر، ويعرف السر الذى تخفيه، ابنتها غير الشرعية من خطيبها الراحل. انكشاف الأمر يذيب الثلوج ويزيح حاجزا خطيرا يفصل بينهما، ويهدد العلاقة في مهدها. التسامح يفتح آفاقا جديدة واعدة، ويولد حب حقيقى يختلف عن العلاقة مع نبيلة التى تتخلى عنه بسهولة، ولا صلة تربطه بتعلق المراهقة فتفت. تزدحم رواية «المتمردون» بشخصيات متنوعة شتى من المرضى والأطباء والممرضات، وتتشكل الرؤية الروائية من تلاحم هؤلاء جميعا في تناغم وانسجام، على الرغم من تباين أدوارهم كما وكيفا. القضية التى يطرحها صلاح حافظ ليست فردية مغلقة، لكن الدكتور عزيز هو الشخصية المحورية الرئيسة التى تتحكم في الإيقاع وتمثل العنصر الأبرز في البناء الفني. لا تخلو شخصيته من الاضطراب والخلل في عدة مواضع، يعلو فيها صوت الروائي، لكن هذا الاقتحام غير المبرر لا ينفى خصوصية عزيز وتفرده، ولا شك أن تناقضاته والسمات السلبية في بعض جوانب سلوكه تتجاوز الإطار الذاتى الفردى وتعبر عن أزمة جيل كامل. باستثناء يوسف إدريس في «البيضاء»، وهو مجايل لصلاح حافظ وينتمى مثله إلى التيارالعريض لليسار المصري، تخلو الرواية المصرية من شخصية طبيب ذى رسالة مهنية وسياسية وفكرية على النحو الذى يقدمه صلاح. قد تكون يسارية عزيز مقحمة بفعل تدخل الروائى الذى يعلو صوته أحيانا، لكن إنسانيته صافية تنجو من الإسراف في الزعيق الأيديولوجى الفج المباشر. ليس أحادى التكوين سطحى الملامح، ذلك أنه إنسان في المقام الأول، بكل ما في الإنسان من ضعف وتناقض وحيرة، ويتسم بكل ما في العاديين من الناس وهم يخوضون معاركهم مع الحياة والحب والخلل الاجتماعي.
مشاركة :