تشتغل الروائيّة البيلاروسيّة سفيتلانا أليكسييفيتش الحائزة جائزة نوبل في الآداب عام 2015 على كتابة روائيّة أرشيفية تُعنى بالتفاصيل الصغيرة المهمة لملايين البشر حول العالم من الذين عانوا ويلات الحروب الكبرى ودمارها.. أولئك البشر الذين وثَّقوا في ذاكرتهم لحظاتهم الأخيرة مع أحبائهم قبل أن يفقدوهم ويودعوهم الوداع الأخير. وكتابة أليكسييفيتش تحتفي بهؤلاء «الشهود» على الحروب التاريخيّة المفصليّة الكبرى التي غيّرت وجه البشرية ومساراتها (الحرب العالمية الثانية وما تلاها)، ورواياتها تنشئ كتابة سردية جديدة يُقدم فيها الحدث التاريخيّ المفصليّ من خلال تقنية أصوات متعددة قائمة على التداخل؛ ولذلك فإن حبكتها السردية مغايرة في ذلك «التبئير» المتعدِّد الأصوات. لقد أجرت سفيتلانا أليكسييفيتش مسحًا شاملاً للإنسان خلال المرحلة السوفيتية خلال أكثر من نصف قرن بما في ذلك رصدها لتواريخ المشاعر التي قلَّما التفتت إليها مؤرخو الحروب. وربّما ألهمها اشتغالها في الصحافة لسنوات عدة على ابتكار تلك الأرشفة السردية التي تميّز مجمل أعمالها الروائيّة؛ ففي روايتها «ليس للحرب وجه أنثوي» (1985) اتكأت أليكسييفيتش على حوارات تنبض بروح الخسارة والحسرة مع مئات النساء اللواتي قاتلن في الجبهة ضد ألمانيا النازية، ويبلغ عددهن حوالي مليون امرأة. وفي رواية «فتيان الزنك» (2016) تستنطق أليكسييفيتش بعض الأصوات السوفيتية من حرب منسيّة؛ حرب الاتحاد السوفيتيّ في أفغانستان (1979-1989) حيث كان الجيش السوفيتي آنذاك يشحن قتلى الحرب من الجنود السوفييت في توابيت من الزنك إلى مسقط رؤوسهم. وفي روايتها «مسحور بالموت» (1993) تسرد أليكسييفيتش لحظات انهيار الاتحاد السوفيتيّ من خلال محاولات انتحار قام بها كثير من البشر العاديين الذين لم يستطيعوا التخلي عن آيديولوجيتهم الشيوعية. وقد واصلت سرد تلك اللحظات التي لم يرصدها الإعلام الرسميّ في روايتها «زمن مستعمل» (2013) الذي استنطقت فيه عشرات الشهود الذين كانوا شهودًا للحظة تاريخيّة مفصلية هي انهيار الاتحاد السوفيتي. وفي «صلاة تشرنوبل» (1997) أجرت الروائية مقابلات مع خمسمائة ناجٍ وناجية من مأساة انفجار مفاعل تشرنوبيل النووي، ورصدت مشاعر الحزن والغضب في صور سردية نابضة بالألم. وفي روايتها «آخر الشهود» وثَّقت أليكسييفيتش اللحظات المفصلية الأليمة في ذاكرة عشرات من البشر من شهود الحرب العالميّة الثانية؛ لقد استنطقت ذاكرتهم الاستعادية لطفولة مغايرة: كانوا أطفالاً صغارًا جدًا تتراوح أعمارهم بين الرابعة و الرابعة عشرة من العمر عندما اقتحمتهم الحرب فجأة، وسرقت منهم طفولتهم. وهي أحزان كونية كبرى لا تفرق بين عرق أو دين، وفي تصديرها لهذه الرواية تقول: «في فترة الحرب الوطنية العظمى (1941-1945) قُتِلَ ملايين الأطفال السوفييت: روس وبيلاروس وأوكرانيون ويهود وتتار ولاتفيون وغجر وكازاخ وأوزبيك وأرمن وطاجيك». يتخلى الأطفال في الحروب عن دماهم المفضّلة من أجل قطعة خبز، وتتسلل إلى أنوفهم روائح الحرب التي لا تغادر الذاكرة مطلقًا، ويختلط البشر وتختلط الأماكن وتتبعثر إلى شتات ومنافٍ. وفي الحكاية الأولى للشاهد الأول تروي جينا بلكيفتش البالغة من العمر آنذاك (ستة أعوام) سردية الحرب من ذاكرة طفولية: «أنارت الشمس وجهي. شعرتُ بالدفء الشديد... حتى الآن لا أصدق أنَّ أبي ذهب في ذلك الصباح إلى الحرب، كنتُ صغيرة جدًا، لكنني أعتقد أنني كنت أدرك أنّني أراه لآخر مرة، ولن ألقاه أبدًا. كنتُ صغيرة.. صغيرة جدًا. وهكذا ترسّخ في ذاكرتي أنَّ الحرب تعني غياب أبي». في وقت ما طرح دوستويفسكي السؤال التالي: هل يوجد تبرير للسلام ولسعادتنا وحتى للانسجام الأبدي، إذا ما ذُرِفَت دمعة صغيرة واحدة لطفل بريء من أجل ذلك، ومن أجل إقامة الأساس المتين؟ وأجاب بنفسه قائلاً: إنَّ هذه الدمعة لا تبرّر أيّ تقدم، وأيّ ثورة، وأيّ حرب. فهي أكثر قيمة دائمًا. إنَّها دمعة صغيرة واحدة. كثيرة هي سرديات الحروب التي بقيت دون استنطاق ورحلت مع رحيل ملايين البشر، وفُقِدت إلى الأبد. فهل نحن بحاجة إلى استنطاق ذاكرة الألم من جديد؟ أرى أنَّ سرديات أليكسييفيتش رغم قسوة وقعها تحمل رسالة السلام إلى البشرية؛ فمهما تعدَّدت الأعراق والأجناس والأديان تبقى ذاكرة الفقد وذاكرة الألم ذاكرة إنسانية مشتركة، هي تلك الذاكرة التي ستظلُّ تذكرنا بأهمية الحفاظ على إنسانيتنا الحقة وبأهمية الحفاظ على السلام بين الشعوب. أستاذة السرديات والنقد الأدبيّ الحديث المساعد- كلية الآداب جامعة البحرين. dheyaalkaabi@gmail.com
مشاركة :