تشتغل الروائيّة البيلاروسيّة سفيتلانا أليكسييفيتش الحائزة جائزة نوبل في الآداب عام 2015 على كتابة روائيّة أرشيفية تُعنى بالتفاصيل الصغيرة المهمة لملايين البشر حول العالم من الذين عانوا ويلات الحروب الكبرى ودمارها.. أولئك البشر الذين وثَّقوا في ذاكرتهم لحظاتهم الأخيرة مع أحبائهم قبل أن يفقدوهم ويودعوهم الوداع الأخير. وكتابة أليكسييفيتش تحتفي بهؤلاء «الشهود» على الحروب التاريخيّة المفصليّة الكبرى التي غيّرت وجه البشرية ومساراتها (الحرب العالمية الثانية وما تلاها). ورواياتها تنشئ كتابة سردية جديدة يُقدم فيها الحدث التاريخيّ المفصليّ من خلال تقنية أصوات متعددة قائمة على التداخل؛ ولذلك فإن حبكتها السردية مغايرة في ذلك «التبئير» المتعدِّد الأصوات.لقد كان لاشتغال أليكسييفتش في مجال الصحافة الاستقصائية لسنوات عدة الذخيرة الأكبر التي جعلتها قادرة على استنطاق آلاف الشهود الذين عاشوا في حقبة الاتحاد السوفيتي السابق (1917-1991)، وبالتالي كان اشتغالها على إعادة صياغة ذلك الأرشيف الوثائقي صياغة سردية مغايرة تتمرد على قواعد الحبكة السردية وتقنياتها. ولن نستطيع التوغّل بعمق في منجز أليكسييفتش السردي إلا بعد أن نستكمل قراءة منجزها الروائي كاملاً من رواياتها «صلاة تشيرنوبيل» إلى «زمن مستعمل» و«فتيان الزنك» و«آخر الشهود» وغيرها. في رواية «ليس للحرب وجه أنثوي» تستنطق أليكسييفتش شهادات عشرات من شاهدات الحرب العالمية الثانية من نساء روسيات شاركن في جيش بلادهن ضد ألمانيا النازية. لقد كانت أليكسييفتش تبحث عن سرديات أنثوية للحرب بعيدًا عن الروايات الذكورية التي يكون لها مقام الصدارة. تقول أليكسييفتش: «لقد حدثت آلاف الحروب، قصيرة ومديدة، معروفة ومجهولة. لكن ما كُتِبَ عنها أكثر. كثيرون كتبوا، رجال عن الرجال؛ وهذا ما أدركته على الفور. كلُّ ما نعرفه عن الحرب، نعرفه من خلال «صوت الرجل». نحن جميعًا أسرى تصوّرات «الرجال» وأحاسيسهم عن الحرب، أسرى كلمات «الرجال». أمّا النساء فيلذن بالصمت. لم يكن أحد ليسأل، باستثنائي أنا، جدتي أو أمي حتى النساء اللواتي كُنَّ في الجبهة، يلذن بالصمت. وحتى إذا بدأن يتذكرن، فيتذكرن حرب «الرجال» وليس حرب «النساء». «التاريخ من خلال حديث لم يلحظه شاهد ولا مشارك. نعم، هذا ما يهمني، وأريد أن أجعل منه مادة أدبية. لكن محدثاتي لسن مجرد شاهدات، بل هنَّ قبل كل شيء، ممثلات ومبدعات. إنَّ من المستحيل الاقتراب من الحقيقة وجهًا لوجه. فبين الحقيقة وبيننا تكمن عواطفنا. أدرك أنني أتعامل مع راويات، ولكل منهنَّ روايتها، ومن مجموعها، ومن تقاطعاتها، تولد صورة العصر والناس الذين عاشوا فيه». في «ليس للحرب وجه أنثوي» تتجاور عشرات الشهادات التي تأتي مذيّلة بأسماء راوياتها لنساء روسيات معظمهن في سن الشباب تجمعهن «الأنوثة» التي غابت عنهن في سنوات الحرب الخمس رغم تشبث بعضهن بها، وتجمعهن تلك المفارقات المريرة بين الحرب وكيفية الحفاظ على جوهر المشاعر الإنسانية، وتجمعهن تلك العودة التي أعقبت الحرب إلى أماكنهن القديمة بعدما فقدن الكثير من أرواحهن التي كانت بما في ذلك الرغبة العارمة في إلغاء ذاكرة الحرب وطمسها.وأنا أقرأ منجز سفيتلانا أليكسييفتش الروائي استحضرتُ في ذهني المنجز الضخم الخاص بالفيلسوف والمفكر الفرنسي بول ريكور، وهو المنجز الضخم الذي ألفه قبيل وفاته بسنوات قلائل «الذاكرة، التاريخ، النسيان»، وأعد هذا الكتاب واحدًا من أبرز المنجزات الفكرية والفلسفية الخاصة بالقرن العشرين: إنه كتاب يجب أن يُقرأ نظرًا إلى عمق أطروحته الفكرية الصادرة عن كوجيتو بول ريكور في مجمل مشروعه «أنا أقدر إذن أنا موجود». لقد اشتغل ريكور في هذا الكتاب على السرد التوثيقي، وعلى آليات اشتغال الذاكرة الانتقائية، وهو ما فعلته أليكسييفتش وهي تسرد توثيقيًا حيوات آلاف البشر وشهاداتهم، وهم البشر العاديون الذين عاشوا في حقبة زمنية معينة هي الاتحاد السوفيتي، ولذلك تحتفي بالسرديات ذوات الأصوات المتعددة المتداخلة والمتقاطعة. وأنا أقرأ بعمق وهدوء كامل منجز أليكسييفتش كنتُ أستعيد في ذاكرتي زيارتي في الصائفة الماضية لمتحف الحرب الإمبراطوري البريطاني، وهو المتحف الذي خلّد مساهمة الإمبراطورية البريطانية منذ الحرب العالمية الأولى: لقد كنتُ أبحث في كلّ ما شاهدته عن حياة البشر العاديين.. كيف كان وقع تلك الحروب عليهم؟ كنتُ أستنطق تفاصيلهم الصغيرة المخبأة في بطاقة بريدية أُرسلت ولم تصل قطّ إلى وجهتها! في تلك الأحذية الملقاة المحترقة التي تنبئ عن حضور إنسان كان هناك يومًا ما! عن شهادات الشهود في دفاتر الحروب... شهادة ما تبقى ربّما في الذاكرة! روايات سفيتلانا أليكسييفتش رغم ما قد تحفره من ألم عميق في ذواتنا بتواريخها السردية الصادمة إلا أنّها توقظ فينا إنسانيتنا الحقيقية. التنبّه إلى تلك التفاصيل الصغيرة... تواريخ البشر العاديين ومصائرهم المؤلمة وكيف تتحوّل إلى تواريخ إنسانية في أمثولتها الكبرى الاعتبارية تواريخ تحتفي بالإنسانية والسلام وترفض الحروب وتتساءل بسخرية عن جدواها!أستاذة السرديات والنقد الأدبي الحديث المساعد كلية الآداب- جامعة البحرين dheyaalkaabi@gmail.com
مشاركة :