لو افترضنا جدلاً وخيالاً أنه تم القبض على إبليس بتهمة ارتكاب جرائم قتل أو اغتصاب أو سرقة أو تخريب أو إرهاب وحوكم في محاكم البشر على الأرض، فإن إبليس سيحصل على البراءة من أول جلسة وسيفرج عنه فوراً ما لم يكن مطلوباً على ذمة قضايا أخرى وسيخلى سبيله بالطبع لأنه ليس مطلوباً على ذمة قضايا أخرى. ولو تخيلنا جدلاً أيضاً أن إبليس سيدافع عن نفسه أمام قضاة البشر، فإنه سيقول نفس ما سيقوله أمام الخالق عز وجل يوم القيامة. لكنه في الأرض سيحصل على البراءة وأمام الخالق عز وجل سيلقى به في النار. سيقول إبليس: إنه لم يرتكب أي جريمة بنفسه، وأن يده ليست ملطخة بالدماء ولا يوجد دليل واحد يثبت أنه القاتل أو السارق أو الإرهابي أو شارك في فتنة «الخريف العربي» أو قتل المتظاهرين. سيقول: ما كان لي على منفذي الجريمة من سلطان إلا أن دعوتهم فاستجابوا لي. وجندتهم فانصاعوا فلا تلوموني ولوموا من ارتكب الجرائم وسفك الدماء وهتك الأعراض. لم أهدد أحداً وليست لي أي سلطة على أحد. ولو عصى الجاني أمري، فليست لي أي سلطة لأعاقبه. وعندئذ سيحكم القاضي البشري ببراءة إبليس من كل التهم المنسوبة إليه. هذا هو عدل البشر وعدالة الأرض. أما عدالة الخالق عز وجل، فلن يفلت منها القاتل أو المحرض. عدالة الخالق يقف أمامها شهود الإثبات ولا يوجد شهود نفي. ستشهد أيدينا وأرجلنا وأنفسنا وجلودنا وأسماعنا وأبصارنا. وعلى طريقة إبليس وبنفس أسلوبه تتصرف الآلة المخيفة التي تدير العالم وتحكمه وأعني بها أجهزة الاستخبارات. ولا يمكن لأحد أن يحاكم جهاز استخبارات على جرائمه وعلى كوارثه التي يسببها للعالم. لكننا نحاكم العملاء والجواسيس والخونة والإرهابيين الذين يرتكبون الجرائم تحت لافتات كثيرة وكبيرة ليس بينها لافتة إبليس زعيم أجهزة الاستخبارات الدولية. واللافتات التي ترتكب تحتها الجرائم كثيرة ومتنوعة منها لافتة الدين، وهي الأكبر والأبرز الآن ومنها لافتات الديمقراطية وحقوق الإنسان، (والعيش والحرية والعدالة الاجتماعية)، وعليك أن تحدق جيداً وتتأمل كثيراً لتصدق أن الفاعل ليس فاعلاً أصلياً .. وأن كل جريمة كبرى في العالم وراؤها فاعل أصلي هو الاستخبارات. وأن مرتكبها ليس سوى عصا في يد خفية وترس في آلة عملاقة وضخمة ليس لديها دين ولا قلب ولا مشاعر وليس لديها تردد أيضاً. وكما يفعل إبليس بأن يوحي لعملائه وجنوده زخرف القول زوراً ويزين لهم سوء أعمالهم، فيرون السيئ حسناً تفعل نفس الشيء أيضاً أجهزة الاستخبارات التي تزين للعملاء والخونة سوء أعمالهم، وتصنع لهم لافتات جميلة وبراقة ليرتكبوا تحتها أفعالاً قذرة ومظلمة. لا عليكم أنتم تقتلون باسم الله. أنتم تزفون أنفسكم إلى الجنة وإلى الحور العين بعملياتكم الانتحارية. وكل عملاء إبليس مثل عملاء أجهزة الاستخبارات ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. وأجهزة الاستخبارات مثل إبليس في تجنيد العملاء، حيث لكل عميل أسلوب تجنيده وسبل إقناعه والوصول إلى عقله وقلبه. هناك عميل يجري إقناعه بالطريقة السُنية وآخر بالطريقة الشيعية وثالث بالطريقة البوذية أو بالطريقة العلمانية أو الديمقراطية. كل عميل له مفتاح لشخصيته. والهدف في النهاية واحد والغاية تبرر الوسيلة هو المبدأ الذي يجند به إبليس وأجهزة الاستخبارات العملاء. حدق جيداً لتصدق إذا قيل لك إن الاستخبارات البريطانية هي التي نفذت الهجوم على الأسطول الأميركي في بيرل هاربر لتجر أميركا إلى المشاركة في الحرب العالمية الثانية بعد أن كانت مترددة وعلى الحياد. وصدق إذا قيل لك إن أحداث 11 سبتمبر كان وراءها غول استخباراتي مخيف، وإذا قيل لك إن جيشاً جراراً من عملاء الاستخبارات يسيطر على الوظائف في كل أجهزة الأمم المتحدة، وإن معظم أو كل منظمات حقوق الإنسان وأشهرها أذرع لأخطبوط الاستخبارات العملاق. وأن الشركات متعددة الجنسية والعابرة للقارات أفرع لأجهزة الاستخبارات وأن كثيراً من نجوم الفن والصحافة والإعلام عملاء لأجهزة الاستخبارات. والفكاك من أجهزة الاستخبارات يكاد يكون مستحيلاً لأنها تلتف على العميل مثل خيوط العنكبوت حتى أن هناك عملاء وهم لا يشعرون. والإغراءات التي تقدمها الاستخبارات لعملائها كبيرة وأهمها المال والنجومية والشهرة والمناصب الكبرى أيضاً. وكل الأسلحة في حروب الاستخبارات مباحة وغير محرمة مثل أسلحة الدعارة والمخدرات والحروب البيولوجية أو حرب تصنيع الفيروسات وإطلاقها .. وتجار السلاح في العالم عملاء كبار لأجهزة الاستخبارات. ولا يوجد سقف لعمل الاستخبارات، كما لا توجد قوانين دولية أو أخلاقية تحكم عمل هذه الأجهزة، ولا يمكن فرض عقوبات على أجهزة الاستخبارات ولا محاكمتها دولياً. والعقوبات والقوانين والمواثيق تفرض فقط على الصور لا على الأصول. تفرض على الدول والعملاء ولا تفرض على العفاريت التي تحرك الأمور من تحت الكراسي. والأمم المتحدة ليست أمماً ولا متحدة وعندما تعاظم تحكم الاستخبارات في العالم، وأصبحت كل الحروب خصوصاً في منطقتنا العربية حروباً بالوكالة وإرهاباً بالوكالة وقتلاً واغتصاباً وتدميراً بالوكالة عن العفاريت التي تحرك الدمى من خلف الكواليس ضمر تماماً وتآكل دور الأمم المتحدة التي صارت تدير الأزمات ولا تحلها وكثيراً ما تساهم في إشعالها وتفاقمها امتثالاً لأوامر العفاريت أو عجزاً عن الوقوف في وجه هذه العفاريت. ولم يعد بإمكان الأمم المتحدة سوى الإعراب عن القلق والامتعاض، وليس مسموحاً لهذه المنظمة الورقية الهشَّة بالخروج على النص وأصبح الحديث عن تطوير الأمم المتحدة وإصلاح مجلس الأمن الدولي من الماضي وانطفأت وانحسرت عنه الأضواء تماماً، لأن العفاريت لا تريد ذلك . كما أن الأمم المتحدة صارت مثل الجامعة العربية والاتحاد الأفريقي، وأي منظمات أخرى أضعف كثيراً من أعضائها، وتجاوزتها جميعاً الأحداث وأصبحت مليئة بالموظفين التابعين مباشرة لأجهزة استخبارات كبرى أو صغرى أو وسطى. والخلاصة أن كل ما تراه وتسمعه وتقرأه ليس سوى ظل الحقيقة وخيالها .. وأن كل انتباهنا مركز على الصورة .. نحاكم الصورة ونلوم الصورة ونعاقب الصورة. وينجو الأصل من كل ذلك ولا نستطيع الوصول إلى القول الفصل .. هل نحاكم الصورة أم الأصل .. ولماذا ندين الصورة ونبرئ الأصل؟ محمد أبو كريشة *كاتب صحفي
مشاركة :