عندما تعاد خطبة أبي بكر البغدادي حين أعلن نفسه خليفةً وعندما استمع إلى أي من الإسلاميين أو المتأسلمين بكل أطيافهم، تزداد قناعتي ويقيني بما قاله الفنان الراحل يوسف وهبي (ما الدنيا إلا مسرح كبير). وإنني أحدد قوله أكثر وأقول: ما الأمة العربية والإسلامية إلا مسرح كبير أو ملهاة كبرى أو مهزلة كبرى. يقول أبو بكر البغدادي: إني قد وليت عليكم ولست بخيركم.. إن أصبت فأعينوني وإن أخطأت فسددوني وقوموني.. إلى آخر خطبة الخليفة الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه. ويقول المتأسلمون: جزاك الله خيراً يا أخي.. ما شاء الله لا قوة إلا بالله.. وغير ذلك.. وكله باللغة الفصحى. لم يعد عندي أي شك في أن هؤلاء يمثلون أدواراً موزعة عليهم من مخرج بارع وأن السيناريو والحوار معدان سلفاً وبإتقان شديد. وأن هؤلاء اندمجوا في أدوارهم وتقمصوها لدرجة يصعب معها إخراجهم من حالة التقمص هذه. وهناك ممثلون يفعلون ذلك في السينما والمسرح والدراما التليفزيونية، إذ يعيشون أدوارهم في حياتهم ولا يخرجون من حالة التقمص هذه حتى يأتيهم دور آخر.. فهم يتحدثون ويأكلون ويمشون ويتصرفون بنفس أسلوب الشخصية التي يمثلونها.. ومع تكرار الأدوار التمثيلية تضيع شخصية الممثل الحقيقية.. فلا يعرف من هو خصوصاً الممثل البارع.. ولذلك أيضاً يفشل الممثلون والمطربون في حياتهم الأسرية.. لأنهم لا يستطيعون إعطاء الحب الحقيقي فهم يتكلمون حباً بصدق تمثيلي شديد مع عشيقات متعددات في أفلام ومسلسلات كثيرة.. وعندما يقيمون أسراً حقيقية لا يستطيعون العودة إلى شخصياتهم الحياتية الفعلية فيكون الانفصال وانهيار الأسر وعودة الممثل أو الممثلة إلى الأدوار التمثيلية المتعددة.. حتى أنني أندهش جداً من قول الممثل والممثلة إنهما انفصلا بود واحترام وما زالا صديقين ويتزاوران باستمرار.. إذن هي عودة سريعة إلى حالة التمثيل التي لا يستطيعان أن يعيشا بدونها. هكذا بالضبط يفعل الإرهابيون وعلى رأسهم «الإخوان».. إنها حالة تقمص لشخصيات إسلامية تاريخية.. حالة تمثيل واضحة حتى صار من المستعصي إخراجهم من الدور. فأبو بكر البغدادي الذي لا نعرف أين هو الآن تقمص شخصية أبي بكر الصديق حتى في خطبته، ولذلك اختار نفس كلماته مما يؤكد أنه يمثل شخصية الصديق وتقمص الدور تماماً، أو كما يقول أهل الفن تلبسته الشخصية. ولو كان البغدادي يعيش شخصيته الحقيقية لاختار كلاماً آخر يقدم به نفسه كخليفة للمسلمين. لكنه حفظ دوره كما هو مكتوب في السيناريو، ولا يريد الخروج أو لا يستطيع الخروج على النص. مما يؤكد ويوثق هذا الكلام أن البغدادي أعلن أنه يخوض حروب الردة ضدنا نحن المسلمين. وقد سمّانا جميعاً المرتدين الذين ينبغي قتلهم. أما الحرب على الكفار في الغرب، فهي في مرحلة لاحقة ومتأخرة وليست من الأولويات. والرجل بهذا تلبسه تماماً دور الصديق أبي بكر، بل ربما لا يكون اسمه الحقيقي أبا بكر أو هو استثمر اسمه الحقيقي أبا بكر ليتقمص شخصية الصديق. والأمر الآخر الذي يؤكد أن الإرهابيين في غيبوبة تمثيلية طويلة أو في حالة تقمص أنهم جميعاً لا يعملون بأسمائهم الحقيقية، بل وزعت عليهم أسماء شخصيات إسلامية تناسب أدوارهم في المسرحية أو الفيلم، فمنهم أبو قتادة وأبو حمزة وأبو البراء وأبو الدرداء وأبو حفص، وكذلك المناصب والمؤسسات مثل المحتسب وديوان الحسبة وديوان المظالم والعسس والبريد. هي ليست أسماء حديثة لا لأن الأسماء الحديثة كفر أو زندقة أو مروق. ولكن ليكتمل بناء العمل الدرامي (والراكور) كما يقول أهل الفن، حتى الأزياء لا بد أن تكون مناسبة للدور وكذلك الهيئة والشكل والحوار، وكلمات مثل الجهاد والنكاح والسبي والغنائم والفيء كل هذا لا يكتمل البناء الدرامي بدونه.. والأسماء الحديثة تخرج الممثل من حالة التقمص كما تخرج الجمهور من حالة التصديق والمعايشة والاندماج مع الممثلي.. وبالفعل نجح هؤلاء الممثلون أو نجوم الدراما المتأسلمة في جذب قطاع عريض من الجمهور العربي، الذي اعتاد أصلاً الاندماج والمعايشة مع نجوم التمثيل والطرب، بل هناك من الجمهور الرجالي من يعيش حالات حب مع ممثلات. وهناك جمهور نسائي يعيش قصص غرام مع ممثلين. وهذا هو السر والسبب في أن معظم المنضوين تحت لواء الجماعات الإرهابية والمناصرين لها من الشباب والفتيات هؤلاء هم الأقدر على الاندماج والتقمص والانصهار في الأدوار التمثيلية، وهم الأكثر تأثراً بنجوم الإرهاب تماماً، كما أنهم الأكثر تأثراً بنجوم الفن. التقمص لدى الشباب مبالغ فيه وأكثر قوة من التقمص لدى الكبار. لذلك نجد المنضوين تحت لواء الإرهاب بلا فكر ولا منطق. هم متقمصون فقط، هم في غيبوبة التقمص، تماماً مثل فتاة تهيم عشقاً بفنان لم تره قط إلا على الشاشة. فالإرهابيون ومن والاهم مجرد ممثلين بارعين اندمجوا في أدوارهم وضاعت منهم شخصياتهم الحقيقية. والتقمص أساساً عندما يزيد على حده يتحول إلى مرض نفسي عضال أو ما اسميه غيبوبة نفسية. فالمرء يتحرك ويأكل ويشرب لكنه ليس هو. إنه تعرض لحالة اندماج في شخصية أخرى. فاندماج الإرهابيين وأنصارهم في شخصيات الرسول والخلفاء والصحابة والتابعين هو اندماج شكلي وليس اندماجاً قلبياً ولا عقلياً ولا وجدانياً. وهو يشبه بالضبط اندماج الممثل في دوره واندماج الجمهور مع الممثل والولع به. وعندما يتحدث الناس عن قدرة الجن على التشكل الصوري أو الشكلي مثل أن يظهر الجن في صورة إنسان أو حمار أو قط أو ثعبان أو عقرب. أقول لهم إن قدرة الإنسان على التشكل أكبر وأخطر وأقوى. فالجن يتشكل صورة والإنس يتشكل أصلاً. الجن يتشكل جسداً والإنس يتشكل قلباً وعقلاً.. والمرء يضع ألف قناع في اليوم الواحد. وهكذا يفعل «الإخوان» وتلاميذهم من الجماعات الإرهابية. وهكذا يفعل ملالي إيران ووكلاؤهم. المظهر الديني والجوهر المتدني والمنحرف والمارق والخائن والعميل. القول الجيد والفعل السيئ. يفسدون في الأرض ويتقمصون أدوار المصلحين. يعجبك قولهم وتسمع له. لكن أفعالهم يشيب لها الولدان اشمئزازاً. والمنافقون هم جن البشر. لكن تشكلهم أخطر وتلونهم أفظع.. لأنه تشكل الوجدان والقلوب والعقول.. لكن أحداً لا يريد أن يفهم ويعي، فنحن أمة الصور ولسنا أمة الأصول.. ويبدو أننا لن ندرك التناقض الخطير بين الشكل والمضمون. ولن نصل إلى القول الفصل في التناقض بين الصورة والأصل! *كاتب صحفي
مشاركة :