عندما يكون فهم النص الديني عنصريا يأتي التفسير عنصريا أيضا

  • 11/12/2019
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

في مدينة قونيا، بلد الصوفي الشهير مولانا جلال الدين الرومي، المعروف بخطابه المتسامح مع الجميع، علّقت بعض الجهات لافتات تحذيرية على لوحات الإعلان في الشوارع تتضمن آيات من القرآن الكريم تقول “لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء”. وقد أثار ذلك نقاشا في المجتمع التركي وبين الزائرين الأجانب، مما أدى إلى إزالة تلك الإعلانات. كان من بين الآراء السائدة من يقول إن محتوى الآية يشير إلى مرحلة تاريخية معينة، وأنه ينبغي تقييمها ضمن المحتوى التاريخي للآية، وأن النهي “ليس دائما بل هو متعلق باليهود في ذلك العصر”. بما أنني لست خبيرا ومتخصصا في الموضوع، فإن وجهة نظري المتعلقة بالآية الكريمة لن تكون ذات أهمية، لكنني أستطيع أن أدلي ببعض أفكاري المتعلقة بالتصورات السائدة في مجتمعنا. حيث أنه ليس من المهم ما تقوله النصوص، بل المهم هو ما نفهمه من النصوص، فإن هذا هو الذي سينعكس على الواقع المعاش والممارسات الفعلية. ولذلك نقول من المحتمل أن المسلمين في ذلك العصر قد فهموا من الآية أن الصداقة مع اليهود أمر غير جيد.. ولكن ماذا عن مسلمي اليوم؟ وماذا يفكرون حول الموضوع؟ إن ما نفهمه من هذه الملصقات والإعلانات هو أن بعض الأشخاص، على الأقل، في قونيا ليس لديهم تصور إيجابي عن اليهود، وأنهم يعتقدون أن الصداقة معهم ليست أمرا مستحسنا في عصرنا أيضا. وهم بالفعل أكدوا على رأيهم هذا وعبروا عنه دون تردد، حتى أنهم وضعوا اسم جمعيتهم على تلك اللوحات “جمعية الشباب الوطني”. فكيف وصلوا إلى هذا التفسير؟ ولماذا فسروا الآية من منظور عنصري؟ وهل هذه صُدفة؟ لسوء الحظ، حتى أكثر الدوائر رسمية تدافع الآن عن وجهات نظر عنصرية بشأن اليهود. فعلى سبيل المثال إلقاء نظرة على رسالة دكتوراه تم قبولها في الجامعة، ونشرها وقف الديانة التركي سيكون كافيا لشرح الموقف. بعد أن يذكر الباحث فاتح كَسَلَرْ هذه الآية التي وضعتها الجمعية على لافتاتها في شوارع مدينة قونيا يقول “ربما يكون هناك أناس طيبون، ولو قليلا، من اليهود، ولكن أغلبيتهم فاسقون، ولذلك فهم ليسوا مؤمنين حقا، ويذكر القرآن الكريم أن قلوبهم قاسية… وقد فقدَ اليهود خصائصهم الإنسانية، وأصبحوا منحطِّين، حتى، من مستوى البهائم”. (الصفحة 200). ونطالع على صفحات رسالة الدكتوراه هذه السطور أيضا: “نتيجة لذلك، يمكننا أن نقول إن اليهود تعرضوا لغضب الله وانتقامه بسبب هذه الأخلاق السيئة (ويسرد المؤلف في دراسته هذه الأخلاق السيئة بالتفصيل). وقد تَحقَّق ما تعرضوا له بأشكال متعددة. والدليل الواضح على ذلك هو أنهم عبر التاريخ الطويل لم ينجوا من البلايا والمصائب”. (الصفحة 201). إن هذه السطور لا تدل على انحصار هذه النظرة العدوانية لليهود بمرحلة تاريخية معينة، بل إنها، بطبيعة الحال، تعكس تقييما عاما ونظرة شمولية إلى جماعة بشرية معينة، كما أنه يتم النظر إلى البلايا والمصائب التي تعرضوا لها على أنها نتيجة لـِ”غضب الله عليهم” وليس على أنها كانت هجمات عنصرية. ونقرأ أيضا أن “الغطرسة والغرور جزء لا يتجزأ من الطبيعة اليهودية، إن اليهود ينظرون دائما إلى أنفسهم على أنهم متفوقون ولا يمكن اعتبارهم متساوين مع الأمم الأخرى… إن الحالة التي عليها يهود عصرنا هي نفس الحالة التي كان عليها يهود عصر النبي”. (ص 204). فماذا تتوقعون من مسلم تركي يقرأ هذه السطور؟ تدل المقتطفات على أن التصور والانطباع الذي تعطيه رسالة الدكتوراه هذه يتوافق مع التصور العنصري التقليدي القائل “إن اليهود سلبيون وكانوا ضارين للغاية عبر التاريخ!” وقد يكون من الخطأ أن نستخلص من هذا الكتاب الذي نشره وقف الديانة نتيجة خاطئة مفادها أن “الناس يسيئون فهم القرآن ولذلك يأخذون من القرآن أمثال هذه الانطباعات الخاطئة”. بل الصحيح هو أن نقول إن “المجتمع يحمل في ذهنه انطباعات وأحكاما مسبقة من هذا النوع، ولذلك يُساء فهم القرآن على ضوء تلك الانطباعات والأحكام المسبقة”. لقد تم الاعتراف بهذا الكتاب في الأوساط الجامعية في عام 1991 على أنه مساهمة أكاديمية وعلمية، وأطروحة دكتوراه. ثم نشرت المؤسسة الدينية هذه الأطروحة في عام 1995، ومازالت تباع إلى اليوم. ولم ينزعج أحد حول ما كُتب في هذا العمل الذي لا يزال ينشر أفكاره منذ عشرين عاما. لا يمكن التغلب على هذا الموقف أو التهاون به من خلال تأويله بأنه تفسير خاطئ لنص ديني. إن المشكلة تكمن في الثقافة السائدة والنظر إلى سائر الأعراق والطوائف، وفي المبادئ الأساسية التي تستند إليها العملية التعليمية. فلو لم تكن هناك مشكلة لَأمكن فهم النص الديني وتفسيره بشكل مختلف تماما. إن اعتبار الحدث على أنه مشكلة دينية سيكون تغاضيا عن خطورة الوضع، لأن هذا النوع من التصورات الفاشية لا يقتصر على اليهود. فعندما يتربى أبناء المجتمع على أساس النظر إلى الجماعات العرقية الأخرى من منظور “طبيعة ثابتة لا تتغير، وممتدة من الماضي إلى العصر الحالي”، فسينتشر هذا التصور على نطاق واسع، وستنعكس تلك التفسيرات العنصرية حول كل مجموعة عرقية لا تحبها. فعندما يكون الفهم عنصريا، يكون التفسير عنصريا أيضا. فلنبدأ بأنفسنا، لنتخلى عن مقولتنا الرائجة في بيئتنا والتي تعكس نظرتنا الفوقية إلى أنفسنا عندما نقول “إنّ أفكارنا لا تحتوي على مثل هذه الأشياء”، ثم نهاجم الآخرين بالتعميمات الشمولية، عندما نقول “إنكم مازلتم تعملون كذا وكذا..”. نعم، إن هذا النوع من الخطاب يحظى بالقبول والانتشار في مجتمعنا، لدرجة أنني أعتقد أن شباب “وقف الشباب الوطني” لا يزالون غير واعين لخطورة ما ارتكبوه، بل كل ما فعلوه هو أنهم أعلنوا، بكل فخر واعتزاز، شيئا يعلمه الجميع.

مشاركة :