النص الديني بين التفسير والأصل في الإسلام

  • 4/9/2016
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

يُعد النص التفسيري بمثابة النص الثانوي الذي يعيد في صورة شرح أو تعليق ما أقرَّه النص الديني الأصلي من معطياتٍ ثابتة ويترجم محتوياته الدلالية. إلا أنه في اللحظة التي يعيد فيها النص الثانوي ما قاله النص الأصلي، فإنه يعبر عن الذي لم يقله. فالنصوص الثانوية هي كتابة عن الكتابة ووظيفتها تجلية الجوانب الأكثر بروزاً في النص والأكثر غموضاً على المتلقي العادي، وتوضيح المعاني التي يرى المفسر أنها ذات قيمة كبيرة. كما أن التفسير يساعد في بناء نصوصٍ جديدة إلى ما لا نهاية. ومهمة التفسير أن يقول ما كان قد قيل بصوتٍ خفي في النص الأصلي، ليكون التفسير بذلك شكلاً من أشكال توضيح النص وإبراز غوامضه. فقواعد التفسير المُهيمنة، هي نتاج سوسيوثقافي، يشكِل ويقولِب قراءتنا من بعدين اثنين؛ بُعد مُعاصر نشهده ونعيشه ونساهم في بنائهِ، وبعد آخر موروث عن الماضي. فثمة تاريخ مؤسس ومسيطر لم نشهده ولم نعاصره ولا بد من بنائه والبحث عنه في مختلف لحظات التاريخ الثقافي الإسلامي للتعرف الى العوامل التي تتحكم في قراءتنا للنص. لذلك نجد أن كل قراءة حالية تؤثر فيها القراءات السابقة – التفسيرات السابقة – كما أن هناك مكتبة تفاسير لا تقتصر على مجرد مجموعة من نصوص التفسير والتأويل، بل هي أيضاً نسق أو نظام كامل من طرائق الفهم والتقويم تُغذي القارئ المُعاصر وتوجه فهمه وقراءته للنص، فلا وجود لأي قراءة معزولة، هي وضع الفهم في علاقة مع فهم وتفسير آخريَن. ومن المؤكد أنه يوجد تحاور وتناص بين التفاسير. إن تحرير النص لا يكون بسلخه عن ماضيه واغترابه عنه، لا سيما أن الماضي هو بمثابة سمة ذاتية لنشأة النص الديني وتكوّنه وتشكلِه الوجودي والتوثيقي، بل يكون بتتبع حركة انتقاله عبر الأجيال عبر صيرورات التلقي المختلفة التي واكبته، والتموج مع تموجاته الأولى والتفيؤ في ظلال المعاني التي ألقاها في الأزمنة المتعاقبة، ما يعني أن راهنية النص أو تحرره ليسا في القطيعة مع تراكمات المعنى التي التصقت به من الماضي، بل الوقوف عليها باعتبارها خبراتٍ سابقة للعبور إلى خبرة جديدة تحوي نسقاً دلالياً ومعانيَ مختلفة. أي أن راهنية النص لا تكون بالتغاضي عن ماضيه، بل بوضع حركة معانيه وصيرورات تلقيه داخل سياق تاريخي تتواصل أجزاؤه كافة وتتوالد من بعضها بعضاً وأن كل ما قيل فيه وعنه هو أشكال تاريخية وتمظهرات بشرية؛ يبقى النص فيها قادراً على اختراق دوائرها وتصديع أسوار تلك التمظهرات والخروج عن الصمت المُطبق الذي تفرضه سلطة المعنى الثابت حوله، تلك السلطة التي تفرض أن يطابق قوله مع ما تقرره مؤسسة التفسير الموكلة بتحديد معناه. أي أن الحلقة المفقودة أننا توقفنا عند كل ما قيل لزمنٍ خاص ولم نعمَل على التعَرُف إلى ما يمكن أن يقال لزماننا. وهو تعرف لا يكون بالتلقي السلبي لما يقوله النص أو الإنصات لمداليله، إذ إن متغيرات التلقي بين زمن الصدور الأول للنص والزمن الراهن تمنع النص من أن ينطق بذاته، كما كان يحدث في زمن نزول الوحي، لأنه يحتاج إلى قراءة معاصرة تتحقق من خلال قارئ معاصر، لا تكتفي بالكشف عن معاني النص اللغوية أو مقاصد الكلام بعد إضافة قرائن تاريخية لظروف إلقاء الكلام وتلقيه زمن الصدور الأول، بل تتقدم خطوة إلى الأمام للكشف عما نحن مخاطبون به وعما هو موجه إلينا. توليد الخطاب المُعاصر لا يتحقق إلا بالانتقال من الإنصات التام لما يُمليه النص من معانٍ لغوية وملازمات عقلية إلى الدخول في وضعية حوارٍ معه، يحتفظ فيها كل من النص والقارئ بفاعليته وحضوره. أي النص بقداسته وتنزيهه والمتلقي باجتهاداته ووعيه، وهو ما يجعل الخطاب الديني المعاصر ثمرة تفاعل متبادل بين القارئ المعاصر والنص، ونتاجاً مشتركاً ساهم فيه الطرفان. والقول أن كل ما خاطب به النص الديني إبان صدوره في زمن الوحي هو موجه في شكل مباشر إلى كل الذين يتلقونه في الأزمنة اللاحقة، مع قطع النظر عن طريقة التلقي وكيفيته، لهو أمرٌ يحتاج إلى عناية زائدة على ما يُستدل به من النصوص الدينية الموحية بإطلاق الخطاب المباشر لكل الأزمنة. فالخطاب المباشر هو خطاب شفاهي ينحصر مجال المخاطبين فيه بمجال الخطاب؛ الخطاب نفسه ومداه الزمني الذي لا يتعدى دائرة الاشتغال التاريخية التي يتحرك فيها، حيث يمكن ضم الموجودين ضمن المدى الزمني للخطاب، على رغم عدم حضورهم بذواتهم أثناء تبليغ الخطاب، ولكنهم مندرجون ضمن المخاطبين نظراً إلى حضورهم الزمني والمكاني في مجاله ومداه. أما مَن هم خارج هذا المدى، فهم خارجون عن دائرة المخاطبين، ما يعني أن العلاقة بينهم وبين النص ستتخذ وضعية مختلفة بالكامل، في طبيعة المعنى المفهوم من النص ومرامه. وقد أنتج المسلمون عدداً لا يحصى من التفاسير وعلم القرآن وعلوم السنة ونصوص أئمة المذاهب، وهي نصوص نُسجَت حول النصوص الدينية الأصلية، ولأن أي قراءة للنص الأصلي أو أي مسعى لتحصيل معناه لا بد من أن يمرا عبرَ التفاسير والشروحات والتعليقات، لذا لم نَعُد في معرض قراءتنا للنص قراءةً مستقلة بل عبر تفاسير وكتب استنباط وشروحات عديدة، تُبين ما خَفِي علينا من معانٍ وترشدنا إلى أصول فهمه وتفسيره. إلا أن مقولاتها – مقولات التفاسير- الخاصة تفرض نفسها في المقابل وتحجم فضاءات النص الأصلي بتحكماتها الاستدلالية؛ الأمر الذي يعيق عملية التلقي المباشر بين القارئ والنص، ويحجب التفاعل المباشر والإيحاء الخالص الذي يتدفق من النص باتجاه المتلقي، ويعطل قدرته على التموضع داخل النص ويشوش عليه التقبل الشفاف والمباشر لما يبثه النص – المتن- في وعيه وما يمكن أن يفتح عليه من آفاق ورؤى.

مشاركة :