إن الأدب الشفهي يشكل طريقة خاصة للتعامل مع التراث الثقافي الخاص بالتقاليد الشفهية التي تهم المجتمع، لذا فإن التقاليد الشفهية تشمل الأدب الشفهي ولكنها لا تنحصر في حدوده، وعلى العكس من ذلك فإن اللغة التي توحّد بين هذين المفهومين تمثل ميداناً ما زال في حاجة إلى المزيد من الدراسة وتعميق النظر، ذلك أن الخصائص الشكلية للأسلوب الشفهي ربما تضفي على اللغة طابعاً معيناً؛ فعندما نستمع إلى ملحمة شفهية بلغة أفريقية مثلاً نقول لأنفسنا إنه بالإمكان ترجمتها إلى الفرنسية أو الإنجليزية لكن يصعب سردها شفهياً في هذه اللغات مع الاحتفاظ بأبعادها الإيقاعية والصوتية، وهذه القضية في الحقيقة تتجاوز مشكلة الترجمة لأنها تتعلق بقدرة بعض اللغات على نقل الأدب الشفهي والتعبير عنه وليست هذه القدرة لصيقة بهذه اللغة أو تلك ولكنها تمثل الطابع الذي يخلفه الأسلوب الشفهي على جسد اللغة. والواقع أن مجتمعات التقاليد الشفهية طوّرت ظواهر عديدة قصد حل مشكل التواصل وأيضاً للإجابة عن سؤال جوهري وهو: كيف السبيل إلى حفظ الذاكرة الاجتماعية من الضياع؟ وما الوسائل الكفيلة بضمان توارث اللغة وتناقلها بين الأجيال والحقب؟. هذه المسألة ومسائل أخرى عالجها كتاب (التقاليد الشفهية: ذاكرة وثقافة) للمؤلف لويس جان كالفي المتخصص في اللسانيات والآداب والعلوم الإنسانية وله مؤلفات عديدة ترجمت إلى عدة لغات مختلفة مثل: (تاريخ الكتابة)، (اللسانيات والاستعمار)، اللغات الأوروبية) وغيرها. هذا الكتاب الصغير في حجمه الكبير في موضوعه وفكرته والذي ترجمه الناقد والمترجم والكاتب المغربي رشيد برهون ونشره مشروع كلمة للترجمة التابع لهيئة أبوظبي للثقافة والتراث في عام 2012م يتناول في سبعة فصول: التقاليد الشفهية وتدريس اللغة، بنية النص الشفهي، الشفهية والإيمائية وقياس العالم، الكون التصويري للتقاليد الشفهية، أسماء الإنسان، التقاليد الشفهية والتاريخ، عنف الكتابة. وجاء في تصدير الكتاب توضيح يشرح هدف الكتاب حيث أشار إلى أنه كلما تم الحديث عن التقاليد الشفهية تبادر إلى الأذهان صورة مجتمعات منزوية في قاع الأدغال أو منعزلة في أعالي الجبال لا تصل إليها قدم إنسان بعادات غريبة وصناعات تقليدية، أي مجتمعات بعيدة كل البعد عن الفن والحضارة، لهذا يصبح من الضروري إعادة الاعتبار للثقافة الشفهية بدءاً بالدعوة إلى رفض هذه النزعة الإغرابية المبتذلة، وهذه الرؤية المتلصصة التي لا تقبل الآخر إلا في غرابته وليس في اختلافه. وأكبر صعوبة يواجهها الباحث وهو يكتب عن الشفهية تكمن في تصوره لهذه الظاهرة انطلاقاً من معايير المجتمعات ذات التراث المكتوب. فمنذ البدء تطالعنا الدلالة القدحية لمفهوم الشفهي، وانطلاقاً منه ينشأ تقابل من جهة أولى بين المعرفة متمثلة في إجادة القراءة والكتابة، والجهل والأمية أي عدم معرفة مبادئ القراءة والكتابة، كما لو أن كل معرفة تظل بالضرورة رهينة بمعرفة الكتابة. لكن كيف يتعامل الباحث وتحديداً المؤرخ مع الوثائق الشفهية؟ وأنى له أن يعتمدها وهي تقدم له الروايات المختلفة المتناقضة أحياناً! إننا في الحقيقة أمام أسئلة وليدة منطق مجتمعات التقاليد المكتوبة، فما يعد خللاً لصيقاً بالشفهية، هو في حقيقة الأمر المبدأ المؤسس لها. إن تنويعات النص تندرج في إطار يستهدف التخزين في الذاكرة، ويضطلع أيضاً بوظائف أخرى، ونعني بذلك الأسلوب الشفهي. والقضية هنا ليست تقابل بين التذكر والارتجال، وقياس أمانة النص الشفهي، أو عكس ذلك درجة انزياحه واختلافه، ولكنها قضية رؤية ترى أن النص الشفهي ليس واقعة إغرابية أو قديمة، ولكنه حاضر معنا، يعايشنا ويستمر في ثنايا الأشكال التي نتعامل معها يومياً. من هنا تلك المقارنات الرصينة بين معطيات اللسانيات الحديثة وما يتضمنه التراث الشفهي من مبادئ مستقلة من لغات قبائل أفريقيا وأمريكا اللاتينية وبين طرائق الحساب الحديثة وتلك التي تعرفها المجتمعات الشفهية هذا عدا أن العديد من الوقائع التي تميز مجتمعات التقاليد الشفهية تحضر بدرجات متفاوتة في مجتمعات التقاليد المكتوبة. إن الفرق بين مجتمعات الكتابة ومجتمعات الشفهية ليس إذن فرقاً بين الحضارة والتوحش بل هو إحالة إلى نمطين من المجتمعات وطريقتين في رؤية العالم وتنظيم المجتمع. ومن هنا تلك العبارة البليغة التي يختتم بها الكتاب رحلته مع التراث الشفهي: "ويبقى اللفظ"
مشاركة :