«النسويَّة» ما بين مراوغة المصطلح.. والفهم البُنيوي المغلوط

  • 11/14/2019
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

لعل من الضرورة أن يكون هناك حراك بحثي عربي وإسلامي، يتم من خلاله إعادة هيكلة بعض المفاهيم والوعي خصوصاً فيما يخص المرأة؛ للحؤول دون بثّ أفكار تنأى عن قيمة المرأة أو تقودها «بلا وعي» لمسارات ارتيابية لا تخدم حقوقها ولا قضاياها.. باتت أغلب المفاهيم والمصطلحات من الضبابية والمُراوَغة والتنوّع والتناقض والتضارب؛ ما يجعلها بحاجة إلى نقد تصويبي حتى لدى ناحتيها وساكّي دلالاتها ومعانيها ومراميها، فما بالنا بالدّارس والباحث أو حتى القارئ العادي الذي يتعاطى معها تلقِّياً وفهماً وتأويلاً، مما يجعل نقدها وتصويبها ضرورة علمية أولاً وإنسانيّة ثانياً، وقد فطِن لهذا الإشكال العلمي والمعرفي بعض العلماء العرب، وكذلك من الغرب من باحثين ونُقّاد رصينين أخذوا على عواتقهم مهمّة إجلاء الغموض عن تلك المفاهيم والمصطلحات باعتبارها عُدّة معرفية ضرورية للبناء التحليلي وقراءة الكلمات بهدف فهمها والولوج لعوالمها وفك ترميزاتها العلمية وإدراك مراميها ومدلولاتها بيسر وسهولة. من هذه المفاهيم والمصطلحات: مفهوم "النسوية"، ذلك المصطلح المُراوِغ المتفلِّت ذو الدلالات والإلماحات المُضلِّلة غالباً، والذي يُفهَم وفق سياقات مختلفة بحسب البيئة التي يُتداوَل فيها، الأمر الذي ألقى بظلال مُربِكة جعلت الكل يضرِب في تصوّر معانيه ودلالته وفق أرضيته المعرفية المختلفة وكذلك بحسب البيئة الحاضنة لظروف تعاطيه دون اعتبار لاختلاف السياقات البيئية بين كل دولة وأخرى، وهنا مكمن الإرباك والإشكالية. ومن يتتبّع هذا المفهوم وإن وجده في أغلب المقاربات الفلسفية يجد اهتماماً ليس ببعيد ومحاولة مقاربته فلسفياً باعتبار "النسوية والفلسفة" تتضايف وتتداخل مفهومياً ودلالياً - إلى الحد الذي لا يمكن التغاضي عن ملامسته وكشف جغرافيته كما هو واضح من الجهد الذي قام به عدد من الباحثين، حيث يُنظر للحقلين، "الفلسفة والنسوية" كعاملين يتضايفان ويتضافران للبحث في ميكانيزم هذا المفهوم، النسوية من خلال استثمار الممكن الفلسفي بحمولتها المعرفية وأدوات القول الفلسفي من تأمُّل وتحليل ونقد وعقلنة. وباستدعاء المقول الفلسفي منذ القدم نجد أن الفلسفة - للأسف - كانت تنظر للمرأة على أنها عار فقامت - تبعاً لذلك - بنفي المرأة واستحقاقها من أرسطو ومروراً بعصور إبادة الأنثوية (العصور القروسطية) التي صوّرت هذا الكائن اللطيف بأوصاف لا تعكس قيمة حضارية أو تنويرية أو إنسانية حتى انبلجت لحظة تنوير حقيقية شكّلت مرحلة إنارة وتعقُّل ومحاولات حثيثة عوّضت ذلك الإجحاف للمرأة ككائن له اعتباره واستحقاقه الوجودي، وكانت حقبة مفصلية ومهمة تم وصفها بحقبة الإحياء الأُنثوي، تمّ على إثرها الشروع في إعادة تأثيث الخطاب الفلسفي وتبيئة وجود المرأة كعنصر شريك لا يتم اختزاله في جانب جندري تحقيري لا يليق بأدوارها ولا أهميتها البناء الحضاري والإنساني. الإيغال في تناول مراحل النظرة القاصرة للمرأة قد يطول ويتشعّب ويحتاج لمقاربات تستغرق مساحات لا تتيحها مقالة عابرة، لكن من المهم أنّ المرأة وما تبعها من مقولات وتوصيفات تطالب بحقوقها كالنسوية وغيرها، هي نتاج نظرة أزلية تعاملت معها ككائن ناقص - للأسف - ونجد هذا النظر التحقيري يتفاوت من عصر لآخر، وليس بجديد حين نُذكّر أن البعض كان ينظر للمرأة على أنها موطئ لذّة يغشاه الرجل ليفرغ شهواته ويستمتع بهذا الجسد الأنثوي المذعن، وقد تورّط حتى بعض الفلاسفة بآراء ظالمة للمرأة لا تخلو من  تحقير وتسطيح لقيمتها ودورها؛ فهذا الفيلسوف جان جاك روسو يعتبر أنّ المرأة لا تصلح لأن تكون زوجة وأن حضورها يقتصر على أن تكون جانب للخدمة وللمتعة وقضاء الوطر، والمفارقة المضحكة أنّ روسو نفسه المُحقّر للمرأة، والذي يعتبره البعض واضع أسس التربية الحديثة؛ هو عينه أقدم على ترك أولاده، بل ألقى بهم على قارعة الطريق مما يؤكد على أن القيم التي تبنّاها والنظرة الجائرة التي وصم بها المرأة متحيّزة وغير موضوعية ولا يعتدّ بها أبداً، وأنّ أحكامه على المرأة لا تعبِّر إلاّ عن سلطة رجولية ترفض الغيرية التشاركية، وليس ببعيد عنه الفيلسوف فردريك نيتشه وقبله أرسطو وفي آرائهما حول المرأة ما يندى له الجبين. من هنا فإنّ من الضرورة التأكيد على عظمة الإسلام الذي تبنّى قيماً إنسانية حقيقية راعت التمايز الجندري والوظائف البيولوجية الحيوية والسيكولوجية لكل نوع، فكفلت لهما تقاسم الحقوق والواجبات بعيداً عن التوصيفات والمفاهيم والمدلولات المختلفة التي يسكّها وينحتها الغرب أو غيره؛ الأمر الذي يستوجب النظر للمستجدات الراهنة حول المرأة وحقوقها والنداءات التي تتعالى بين حين وآخر وفقاً للشمولية التي يقدّمها الإسلام بكمال وشمول عظيمين لا يمكن لمُزايد أن يتجاهلهما. ولعل من الضرورة أن يكون هناك حراك بحثي عربي وإسلامي يتم من خلاله إعادة هيكلة بعض المفاهيم والوعي خصوصاً فيما يخص المرأة؛ للحؤول دون بثّ أفكار تنأى عن قيمة المرأة أو تقودها "بلا وعي" لمسارات ارتيابية لا تخدم حقوقها ولا قضاياها، والخلوص برؤية تتغيّا موقعتها في مكانها الصحيح الذي يليق بآدميتها، والرهان على وعيها وثقافتها وعظيم شأنها وأدوارها، وتحفيز كل ممكنات وجودها كعنصر مبدع وخلاّق وفاعل في سيرورة الإبداع والتنمية والفكر والثقافة وقاطرة الحضارة، امرأة تتخلّق في بيئة مبدعة وفضاء كوني تُسهِم فيه بمعرفتها وأدواتها من حنكة وذكاء ومقدرة ووعي وجسارة فكرية، ونعتقد أن مملكتنا في ظل رؤيتها الحصيفة وقيادتها الجسورة الواعية أسهمت في تخليق وتبيئة هذه الأرضية للمرأة السعودية.

مشاركة :