ما يميز الراوية سلطان بن خلفان بن غافان عن غيره من الرواة التقليديين هو كونه راوٍياًُ وباحثاً في ذات الوقت، فهو قد شهد الحياة القديمة بكل تفاصيلها، ومارس الأعمال التي يمارسها الأطفال والشباب في المجتمع القديم، وخاصة مهنة البحر والغوص، لأنه ولد في أسرة تمتهن تلك المهنة، فحذق كل تفاصيل ذلك العمل، وتعلقت به روحه، لكنه دخل التعليم النظامي الحديث وظل يثابر حتى تخرّج بدرجة البكالوريوس في جامعة الإمارات، وأصبح يمتلك من الرؤية العلمية والقدرة التحليلية ما أتاح له دراسة المجتمع القديم، والتأريخ لعاداته ومهنه، وهكذا انخرط في عملية البحث في التراث ليصبح واحدا من الدارسين الحريصين على حفظ التراث، وتجلية محاسنه. امتاز ابن غافان بالمثابرة والصبر والعزيمة على تحقيق الهدف، ويتبين ذلك من خلال سيرة حياته، فهو ولد في أم القوين والتحق بالمدرسة، وكان والده رجل بحر متخصصا معروفا في المنطقة ببراعته الشديدة في قيادة السفن، ومعرفة أماكن صيد اللؤلؤ (الهيرات) ومعرفة المسالك البحرية، وتُروى عنه في ذلك قصص كثيرة، لكن الوالد توفي وابنه سلطان لا يزال مراهقا في المرحلة الإعدادية، ولم يمنع ذلك الابن من مواصلة طريقه في التعليم، فظل مثابرا يتابع بشغف واهتمام دروسه في المدرسة إلى جانب دخوله للبحر وممارسته مهنة البحارة، وسيظل هذا الحرص على التعلم وتطوير الذات ملازما له حتى تخرجه في الجامعة، فقد التحق بالعمل في وزارة الصحة في دبي بعد حصوله على الثانوية العامة وظل مع ذلك يتابع دروسه الجامعية حتى حصل على البكالوريوس. الانجذاب إلى البحر والبحارة دعا ابن غافان في مرحلة لاحقة إلى الانكباب على تراث المجتمع البحري ودراسته باستفاضة، خاصة بعد أن شهد التغير الكبير الحاصل في حياة الناس، وانتقال المجتمع من حياة الريف والصحراء إلى حياة المدن الحديثة التي تبدلت معها المهن وتغيرت المفاهيم وأشكال التعامل بين الناس، فوجد أن هناك الكثير من خصائص المجتمع المادية والمعنوية والإبداعية ينبغي أن توثق وتشرح للأجيال الجديدة لكي يستفيدوا منها، ويحافظوا عليها، وفي روايته عن ذلك المجتمع القديم يبدو تأثره بشكل خاص بالتغير الذي حدث في شكل العلاقات في المجتمع حيث كانت الحياة بسيطة والتواصل سهلا والبيوت مفتوحة، فكان المجتمع كأنه أسرة واحدة لشدة ارتباط أفراده في ما بينهم، وفي رحلة الصيد يصبح الكبار آباء والأتراب إخوة والصغار أبناء، وتلك العلاقات هي ما يفقده ابن غافان في مجتمع اليوم الذي تعقد وأصبح كل فرد فيه يعيش في عالمه الخاص، وأصبحت هناك حواجز كثيرة تحول دون التواصل. مهنة البحر شدت انتباه سلطان بن غافان إلى الأغاني البحرية، وهي أغاني النهام التي حفظ الكثير منها، وشغف بها في صغره، ثم لما كبر بدأ في جمعها وتدوينها، وحفظها للأجيال باعتبارها أهم شكل غنائي لسكان الساحل في الإمارات والخليج، ولم يقتصر على ذلك، بل سعى إلى التعريف بهذا التراث عن طريق وسائل الإعلام، فظل يشارك في البرامج التراثية ويقدم معلوماته بخصوص أنواع كثيرة من الحرف والظواهر الإبداعية التقليدية، وأخبار الشخصيات التراثية البارزة، والنهّام هو المطرب، والأغنية تسمى نهمة وهي غناء البحارة أثناء انهماكهم في العمل على ظهر السفينة، وكانوا في الأصل يلجأون إليه لبث الحماس في نفوسهم، رفع معنوياتهم، وتشجيعهم على العمل والصبر حتى يتسنى لهم الفوز بالصيد الوفير، كما تدخل فيه أيضاً أغانيهم التي تعبر عن الحنين للمنازل والشوق للقاء الأحبة، والأمل في الظفر والتوكل على الله والتسليم له لأنه هو الرازق والمعطي، وتضم النهمة عدة أنواع من الأغاني منها: اليامال والخطفة والمداوي والفجري، وأغاني الزهيري والموال، وأنواع من الترانيم والابتهالات، ويسمى المغني النهام، ويكون على السفينة نهام أو عدة نهامين، حسب المواهب والاستعدادات الفطرية، فمن كان منهم يمتلك الصوت الندي الشجي يقوم بالمهمة ويتعبه الآخرون، وكثيراً ما يتخصص واحد منهم في المهمة، ويصبح موضع تقدير من طرف النواخذة والبحارة، ويصبح عليه الطلب، ويتنافس عليه النواخذة كل يريد أن يضمه إلى سفينته.
مشاركة :