«النهمة».. أهازيج أهل البحر

  • 6/20/2020
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

هو في البداية أدركَ بأن له صوتاً شجياً، والتف حول نفسه يتلوا كلمات الصبر والرجى، إنها فعل المناجاة اللانهائية، لإنسان هذه الأرض. بعدها أتت الريح، بينما هو يكرر «هو يامال، يالله، قول يالله، هو يامال»، في التكرار تأكيد على ولادة لحن الحياة المنبثق من التجربة الشعورية. فما بعد إدراك الصوت إلا تجربته. ولكن من الذي يُحرك الصوت في الداخل العميق المجهول فيه، فكلما ارتفعت طمأنينة اللحن، خمدت أوتار المرددين من خلفه، كأنهم يتأهبون لانحراف قاس للحن، ورغم قوة القسوة على الروح، إلا أنها قادرة على التعاطف، على المشاركة، على البوح، لذلك يُدرك «النهام» أنه نهامٌ متى ما استطاع تغيير دفة الريح، وهو جالسٌ بالقرب من البحر على «السيفه»، يسمع الرياح ويتغزل بمجراها، هي المعلمة الأولى، ومسؤوليته أن يتأملها ويكتب النجوى التي تبدأ بذكر الله، محاولاً أن يستدرج نفسه إلى فضاء النسمة الرقيقة الأبدية، وبين يديه ذاكرة المكان وأناسه، من أحزانهم وعوزهم وخوفهم وحتى فقدهم عندما يقابله الحنين، وإمكانية ألا يعود الأشخاص أنفسهم كما هم. «النهام»، هو الأكثر حساسية ووعياً بأن ما يتغنى به من أهازيج، ما هي إلا تحضيرٌ مبدئي لكل من سيصعد على ظهر السفينة، في أنه ذاهب إلى رحلة اللا عودة، وإذا سنحت له فرصة الإياب، فإن الأشخاص لا يعودون كما كانوا، فأشواقهم لا تقتصر على رؤية الأهالي والأحبة فقط، وإنما لأنفسهم القديمة في أحيان كثيرة. فالبحر يتجاوز مقدرة اليابس، في أن يجعل الإنسان مواجهاً مباشراً للمخاطر، والأمان كل الأمان قد يكمن في صوت «النهام» وتجلياته الروحية. «نار في قلبي مورايه.. البحر ما أظن يطفيها، تشتعل في لبت حشايا.. كوس والغربي يزاغيها»، نهمة بحرية تغنى بها الباحث والشاعر الإماراتي سلطان بن غافان آل علي، من أبرز الموثقين للأهازيج البحرية في الإمارات، وذلك من خلال حوار لفيديو مسجل مع «الاتحاد الأسبوعي»، وفيه يستخدم صوته، وعفوية الإلقاء لدى أهل البحر، واللافت في عمق القصائد لتلك النهمات البحرية، الاتصال البديع مع رياح الكوس، ممثلةً في رؤى شعرية عديدة الجذر المحرك لروح القصيدة، فالنهام يختار أحياناً أن يساير الرياح، ومرات يشتكي لها، وفي لحظات كثيرة يراها الصاحب والمرسال القادر على إيصال إحساسه وأخباره وأحواله مع العالم خارج السفينة: «هب وابرد يا هوى الكوسي.. هات لي من الصاحب بشارة.. لي خوي ساير الغوصي.. على هير زين محّارة»، وبينما يستمر الشاعر سلطان بن غافان في استحضار النهمات البحرية، يؤكد كيف أن النهمة البحرية تختلف من أم القيوين، عن رأس الخيمة ودبي، بالمقابل في العاصمة أبوظبي، فإن الاختلاف الأبرز هو «اللحن»، اعتماداً على طبيعة البيئة التي نشأت فيها النهمات، فالمحيط الطبيعي والاجتماعي والثقافي يؤثر على مسارات تشكل الكلمة وجملها اللحنية ومستوى تطورها عبر الأجيال المختلفة التي اتخذت مسؤولية المحافظة على الموروث البحري الشعبي. الحدوة البحرية التشكلات الغنائية في ما يعرف بـ«الحدوة البحرية»، هي أنها توحي بكمية التفاصيل في عوالم الأهازيج البحرية، فكل فعل في عالم البحر والصيد والغوص على اللؤلؤ، كان له ممر غنائي، وكلمة «الحدوة»، قادمة من الغناء بالحداء على ظهر الجمل، و«الحادي هو الذي يسوق الإبل ويتغنى لها»، ما يسرع حركتها وسيرها ضمن إيقاع منتظم عبر التموجات المنسابة لرمال الصحراء، ومن بين أجمل ما ذكره الباحث والشاعر سلطان بن غافان، من أمثلة لـ«الحدوة البحرية» المرتبطة بما أسماه بـ«تنزيل السمك» منها «العومه»، وهي نوع من أنواع سمك السردين: «يا أخوي يا عضيدي لا ترقد في السيوح، وأرقد في ظل بارد، بين الحشى والروح، بسالج يا الكندورة عن من خط ودرس، قالت حسين الصورة، لي في الرايح برز»، وفيها يستشف المستمع لصوت بن غافان، بينما يتغنى فيها بالإدراك العميق للتعاضد في أبسط تعابيره لدعم مواصلة العيش، فقد يتساءل المرء، ماهي العلاقة التي تربط الشخص المشغول بنقل السمك من مكان إلى آخر، بحال معارفه وأصحابه، موجهاً لهم اختيار مكان يحفظهم وفيه ظل بارد، بعيداً عن المساحات المفتوحة التي قد تضرهم، ومفردة «بارد» توحي بحالة الجو، كمثل حرارة الشمس الساطعة، وهو ما يمكن استشفافه كتفسير عام، إلا أن في عمق القصيدة المذكورة، وخصوصاً «بين الحشى والروح»، دلالة على متانة العلاقة التي تتعدى المكان بشكله الفيزيائي المعروف بالنظر، إلى أن من نحبهم هم جزء من تكويننا، ونُعبر من خلالهم عن هذه الحياة، وهم عبر أغانينا يتأصلون أكثر في الوجدان، ووجودهم بأمان جزء من أماننا جميعاً. في هذه اللحظة، رفع الباحث والشاعر سلطان بن غافان يديه للأعلى، كمن يسحب حبل الشراع للأسفل، وقال: «وين المغني وين طراب الهوى.. ترك الذي سوا الجواب ولا استوى، ومن المدركة لين راس الحد خطفنا.. كلنا اصبيان وياربي تسلمنا»، مشيراً إلى الحدوة البحرية المختصة برفع الشراع، أما الحدوة البحرية المختصة بتنزيل الشراع فيقول فيها بن غافان: «لي بيا لمدايح ايسوم عمره سوم.. ويبات ساهر ما ينام، اسمعت حس الصايح ماهناني النوم.. نشيت من حلو المنام». طوال تغني بن غافان بالنهمات، ومنها تلك التي يجر فيها شخص واحد المجاديف بقرب الخور: «هيالله، قل يالله، بخضع لخلي، خلي باردي، وبترك الدنيا، الدنيا ومافيها»، يمكن للمتابع أن يلاحظ الانغماس التام لابن غافان، طوال تلك السنوات بالحالة البحثية من خلال تجربتها وتطويرها، والتساؤل عن والده من كان متخصصاً ويُعرف في المنطقة ببراعته في قيادة السفن، ومعرفة أماكن صيد اللؤلؤ (الهيرات) ومعرفة المسالك البحرية، ما يوضح أكثر التأثير المتوارث للإنسان، عندما يكنز في داخله تجربة تراكمية، ويبني من خلالها ذاكرة تحرك الشعور الإنساني، نحو التعاون والتعاطف الكبير الذي جمع أُناس المكان، فيها القصيدة شاهدة على ذلك، أما الأغنية البحرية، فهي العاطفة التي تحرك معنى تلك القصيدة في النفوس. واختتم الباحث والشاعر سلطان بن غافان آل علي، حالة اتصاله البديع مع شروحات «النهمة» و«الحدوة البحرية» بما يعرف عند أهل البحر في إمارة أم القيوين بـ«شلة البر»، التي تنتمي إلى فن الحدوة البحرية، وأوضح بن غافان أنه في فترة الخمسينيات والستينيات، كن النساء يحضرن الخبيص والهريس والمحلا، وغيرها من الأطباق الشعبية، ويصعدن على ظهر «الشاحوف»، وهي سفينة محلية، تستخدم في الصيد ونقل الأغراض الخفيفة والتنقل، حيث يكون وقتها الطقس جميلاً، ويأتي الرجال على ظهر «الشاحوف» بهذه الحدوة البحرية، التي وثقها الباحث والشاعر الإماراتي خالد البدور، في برنامج «صدى الأيام». ويذكر البدور تفسيراً لجزء من النص الشعري: «في واحدة من الأغنيات يقول الشاعر إنه أنشد لسبب ما وسمى باسم الله، إننا نحبها لؤلؤة بحر منتقاه، كلما وزنت بالميزان، رجحت كفتها، وأن المريض إذا رأها، وهي خلف الحجاب طاب، لقد أخفوا عنها وجهها ذاك المطيب بالزعفران». ومن خلال كل تلك التجليات الشعرية، يشير الباحث والشاعر سلطان بن غافان إلى دور الشعراء الأوائل في وضع دعائم متينة وأساسية للشلات البحرية، والتي شهدت تطورات مختلفة على مدى السنوات الماضية. ناصر الكاس: استمرارية لحركة السفن «لكل حركة للشراع، لا بد من هواء، ولكل حالة تجديف هناك تماهٍ عبر السحب والجذب للأمام والخلف، وجميعهم يعملون وفق إيقاع، يظهر عبر النهمة».. بهذه التعابير انطلق تعريف ناصر حسن حميد الكاس آل علي، رئيس جمعية ابن ماجد للفنون الشعبية والتجديف برأس الخيمة لـ«النهمة البحرية»، خلال زيارة «الاتحاد الأسبوعي»، لموقع الجمعية التي تشكل روح بحر منطقة «المعيريض» التي شهدت جزءاً حيوياً من تشكلات النهمات البحرية في الإمارات، وحُفظت كلماتها وألحانها في صدور ناسها من أهل البحر، يُخبرنا الكاس، كيف أن النهمة تعطي استمرارية لحركة السفن، سواء كان فيها البحارة «واقفين» للجدف في حالة السفر للغوص على اللؤلؤ، أو «جالسين» أثناء التجديف في رحلات الصيد، فكل غاية لدخول البحر تختلف عن الأخرى بناء عليه تحدد مواضع وأمكنة البحارة على ظهر السفينة، ومثلما للجدف أنواع، فإن للنهمات خصائص، وهنا يتوقف الكاس عن الحديث ليشرع بإلقاء القصائد، قائلاً: «با نشرج صوب الأيوادي.. لي شيرهم دوم يرعونه، هب عود الموز بنجادي.. لي تعلى مالت أغصونه، سرت مصر وسرت بغدادي.. مثلها - ما ريت مزيونه، بن علي لو يرّح أفادي.. لا تهقي إن الخفا دونه». أهل البحر يحفظ ناصر الكاس، أغلب النهمات من والده النهام حسن بن حميد الكاس، من كان معروفاً في رأس الخيمة وقتها بصوته، ويسرد كيف أنه في إحدى الليالي، بعد عودة والده من رحلة صيد، يستمر في التغني بأهازيج البحر، وكيف أن النساء يعرفن بالصوت أنهم عادوا ووصلوا إلى اليابس بالقرب من «السيفه»، موضحاً أن هناك علاقة عميقة بين النهمات والبحارة، وصفها بـ«الشوق»، لدرجة أنه إذا التقت سفينتان في طريقهما خلال رحلة في البحر، ينزل أحد البحارة ويسبح بالاتجاه نحو السفينة الأخرى، ليتغنى معهم، ومن ثم يعود مجدداً للسفينة التي كان فيها، وذلك من أجل هذا التشارك الغنائي الذي يجمعهم، والذي يلاحظ أن أغلبه غزلي، ويفسر الكاس أن السبب يعود إلى كون الغزليات تريح ويستأنس من خلالها الإنسان مع نفسه والآخرين، فالحب بطبيعته أينما حل، يرابط على قلوب الناس ويجمعهم. ولأن عالم الفنون الشعبية، ميزة أي معلومة فيه تكمن في مقدرة الأشخاص على تجربتها واستشعارها، لذا فإن الاستماع لماهية النهمة البحرية هو طريقنا كمتلقين لإدراك ما يطرحه الكاس من سرد تاريخي للمرحلة. وهنا مجموعة من النهمات، قدمها ناصر الكاس، وهو يتحدث عن قصص القصائد والمرويات يقول فيها: «بي هم وبي علاتي.. بي وزا من صاحب العينا، غير هن ماشي لذاتي.. يشفين الأمراض في الحينا، هات تين وهات ميواتي.. وهات رمان البساتينا، اه والعزات عزاتي.. يرحوا قلبي بسكينا، ما على الفايت ندامتي.. طير باتي وطير ما باتي، وطير خفف في السماواتي، يشتكي فرقا المحبينا، هو حبي وهوب أنا وغيدي.. الوغد لي ينكر إحسانا». وقدم أعضاء جمعية ابن ماجد للفنون الشعبية والتجديف برأس الخيمة، قدموا لـ«الاتحاد الأسبوعي»، أهازيج جماعية لنهمات أهل البحر في الإمارات، شارك فيها: سالم أحمد الحسوني، ومحمد علي صالح الدبوحي، وسالم راشد جمعة وأحمد بن حسن. أشرعة السفينة تحدث الباحث والشاعر سلطان بن غافان، عن النهمات في أبسط تجلياتها، ومنها: «اليامال» المرتبطة بالنهمة البحرية بشكل أساسي، و«الخطفة»، وهي ضمن الأهازيج البحرية ذات الاختصاص برفع أشرعة السفينة لإبحارها باتجاهات مختلفة، وتندرج خاصية الغناء المرتبطة برفع وإنزال الأشرعة ضمن فن يطلق عليه اسم «الحدوة البحرية»، ولها عدة تصنيفات، منها الحدوة البحرية التي تؤدى في مواسم الغوص أثناء سير السفينة نحو «الهيرات»، وهناك نوع من الحدوة البحرية يعرف بـ«شلة البر»، المرتبطة بالمناخ المعتدل، وقبل الخوض في التفاصيل حول أثر وأبعاد وجماليات «الحدوة البحرية»، نعود مجدداً لإحدى النهمات البحرية التي تغنى بها الباحث والشاعر سلطان بن غافان وهي: «بايب ربوع وخموسي.. من فضل مولاي وأقداره» وفيه ترد المجموعة: «هيلي يا مال»، وتوحي بالإيمان والتسليم لدى البحارة، وأنها القوة الدفعة التي يمررها النهام أثناء انهماكهم بالعمل، فميزة الأهزوجة البحرية، أنها تقدم أساساً كخلفية موسيقية وتدخل في نطاق اللا واعي وتبث أثناء الانشغال الواعي للبحارة في العمل على ظهر السفينة، رغم حضورها في فترات الترويح والاستراحة، إلا أن الأصل فيها تشكيل استمرارية للعمل، خاصة أن في الأغنية مداً لحالة الصوت الموجية، الشبيهة بأمواج البحر، وقوة التسليم فيها أن البحارة يشعرون بالاتصال مع البحر من خلال ترنيمة الصوت الذبذبية، ينتج عنها حالة التوحد السرمدية التي تشعرهم بالانتماء، رغم بعدهم عن اليابسة.

مشاركة :